ازددتُ حباً.. برابعة!
رابعة العدوية.. كان اسمكِ يهزّني في غفلتي.. يناديني في أعماقي: أنْ كوني مثلها.. زاهدة عابدة راضية! لا تتطلّع لغير السماء.. طلّقت الدنيا ثلاثاً بل أربعا.. واختارت جوار ربها في الدنيا وكذا الآخرة.. وارتقت في مدارج السالكين.. أحببتها وكانت نجماً يهدي السائرين إلى ربهم جل وعلا.. وطاقةَ دفْعٍ لِمَن يريد الوصول.. نجدُّ السير مثلها.. ولكن مَن يُطيق؟!
أما اليوم.. فحين تُذكَر رابعة يرحل قلبي إلى خيالٍ آخر.. لم أعايشه جسداً كما لم أرَ رابعة.. ولكني حضرته روحاً وقلباً حين واكبته لأكثر من ثمانٍ وأربعين يوماً.. هي تلك البقعة في”أمّ الدنيا” التي ازدانت بالمؤمنين الصادقين.. رجال ونساء ووِلدان يفترشون الأرض ويلتحفون السماء.. يقفون في عزّ النهار تحت أشعّة الشمس التي أرمَضَتْهم حرارتُها وثبتوا.. بانتظام كامل.. فهم هناك لنصرة قضيّتهم التي ثاروا لها.. فثَمّ معتدٍ سرَق شرعية رئيسهم.. وانتقص دينهم وكرامتهم.. واستخفّ بصوتهم.. ويحاول طمس الإسلام في سُدّة الحكم ليُعلي مكانه راية العلمانية البغيضة.. والديمقراطية المزيّفة.. يسانده في ذلك إعلام ساقط فاجر.. وشيوخ السلاطين الخائنون.. ورُوَيبضة وبلطجية ودنيئون.. وفئةٌ أرقى شرائحها مغرّرٌ بهم يسمعون للكذب البَواح ويصفّقون له! أعماهم حقدُهم على” أيّ تجربة إسلاميّة تستهدف الوصول إلى الحكم” فانسلَخوا عن إنسانيّتهم ليُشَرْعِنوا للقاتل إجرامَه.. وليفوِّضوا العميل لسحق الجُموع السلميّة بدعوة محاربة الإرهاب والعنف.. وليعطوا وثيقة الاعتراف لـ ” تمرّد” حتى تمارس دجلها وحقارتها على مَن يحمل الإيمان في صدره.. ودستور القرآن في برنامجه!
اعذُريني رابعة.. حين بات يُذكَر اسم (رابعة) يتحوّل ذهني مباشرة إلى تلك الفئة المؤمنة التي ارتقى الآلاف منهم إلى ربّهم ساجدين.. راكعين.. معتصمين بحبله.. مفوّضين أمرهم إليه.. يكتب أحدهم اسمه على يده ورقم هاتف أهله ليعرفوا مَن هو؟ إنْ ارتقى شهيداً.. وغاب عن ذهنهم أن مِلّة الإجرام امتهنت الحرق لتُخفي كل أثر لها على تلك الأجساد الطاهرة! كان كلّ واحد فيهم يفتخر حين ينزل إلى الميدان أنه (مشروع شهيد).. هتافهم: إلهي.. خذ من دمي حتى ترضى!) لعلّ تلك الدماء تُزهِر في أرض -يريد العلمانيون اغتصابها- (حرية)!
مشاهد كثيرة لن تُمحى من مخيّلتي في رابعة! وسيبقى نبض رابعة يسري في ذاكرتي كلما جنّ الحنين إلى مساءات رمضان (الربعوية).. فقد كنتُ أستقي الروحانية من تلك الليالي الثائرة.. منارات الثبات والرحمة..
حتى جاء موعد الضربة الكبرى التي ظلّوا يلوّحون بها لأيام.. فضّوا الاعتصام بالرصاص الحيّ فكانت مذبحة أو مجزرة أوأيّ مسمّى لها يليق!!.. أفجعونا بصور الرؤوس الفارغة من أدمغتها تقطر دماً زكيا.. والحريق الذي اجتاح رابعة ومسجدها الذي أنّ!.. والمعتصمين الذين يُسعِفون المصابين فيُستهدفون.. يقنّصونهم في الرأس والصدر كما لو أنهم في حفلة صيدٍ يتوقون إليها منذ زمن.. صبّ الإجرام كل دناءته على مَن رفع شعار (السلمية) ليدافع عن حقه!
رأيتهم يغادرون رابعة! نظرت إليهم يخرجون.. كما لو أن روحي تخرج مني! ما علِموا أنهم وإن أخرجوهم منها اليوم.. فلن يُلغوا الكمّ الهائل من دروس العزّة والعنفوان والثبات والإصرار والإيمان والصبر والتحدي والتوكل والزهد التي تعلّمناها من هذا الميدان على مدى ثمانٍ وأربعين يوماً.. ولعل الانسحاب من هذا الميدان هو منحة لميدان آخر يتلألأ قريباً بصبرهم وثباتهم.. وإنّا منتظرون.. ولتكن ألف رابعة قريباً! بإذنه تعالى..
وفي هذه المحنة لي وقفات:
« كلّ مَن فوّض الطغاة المجرمين لقتل إخوانهم في الوطن هو شريك في الجريمة! وأدهشتني كلمات امرأة تضع صور السيسي وعليها عبارة (فوّضناك) في شبكة التواصل حين قالت بعد مذبحة فك الاعتصام ردّاً على (محايِدة) تكره الإخوان وتطلب الرحمة من الرحمن: (لا أدري هل أنا أصبحت باردة ودموية أم أنكِ أنتِ مَن لديك بقايا إنسانية)! ولكنّي أنا أدري!!
« كلّ مَن برّر المذابح والتقتيل بحجة اختلاف الرأي أو ادّعاءات كاذبة يُحيكها الإعلام ثم يدافع عن القاتل قد فَقَد إنسانيته تماماً! قولاً واحداً! فليفتّش عن فُتات أحاسيس يستجديها ليستمرّ على قيد الموت!!
« العنف لا يولّد إلا العنف! وكلما ضغطوا.. كان الانفجار أقوى! وكلما قمعوا.. كانت الثورة أعظم! وكلما عربدوا.. كان الالتزام أعمق! فلينتظروا ثارات رابعة!
« خسرت أخوات لي في الله لمجرد أنني مع إخواني في أيّ تجربةٍ تستهدف إنجاح أحلامي الإسلاميّة.. وأكيل للانقلابيّين وأفضح كذب إعلامهم وساستهم.. وتساءلت: هل تذوب أخوّة سنوات في قِدْر العصبية الوطنية؟!! ولِمَ؟!!
« سقطت (النخب) المثقفة بزعمهم حين دافعت عن الظالم وشنقت المظلوم! وعرضَت للرئيس الدستوري المنتَخَب أخطاءه الصغيرة والكبيرة وفتّشت عن بعضها بالمجهر! ونفَت أي شيء حسن فيه وفي مشاريعه التي بدأها! بينما تقف اليوم أمام الجثث والأشلاء لتنسى القاتل الذي قتل بهمجية ومَن خلفه من المجرمين وتقول: هل رأيتم الإخوان ماذا سبَّبوا؟! والأبواق التي كانت تتهم الإخوان بأخونة الدولة أين هي الآن وقد (عُسكِرَت) الدولة؟! حَوَل فكري وحقد أعمى وبهتان عظيم! ولا أدري حقيقة مَن هو (المخطوف ذهنياً)! هم أم مَن يدّعون من الإخوان ومَن والاهم؟!
« افتقدتُ صيحات منظمات حقوق الإنسان والمدافعين عن المرأة ضد العنف الذي يلحق بها.. فما وجدتُ لهم حِسّاً ولا همهمة!!
« (أسياد الأرض) و (خير جنود الأرض) و (فراعنة العالم).. عبارات أتحفتني بها إحدى الانقلابيات لتسحرني بجيش مصر العظيم! وأنه عليّ أن أطهِّر فمي قبل أن آتي على ذكره لأنه لا يمكن أن يطلق رصاصة واحدة على شعب مصر! ما أكّد لي أحد أمرين: إمّا أن المعتصمين في رابعة من زمبابواي أو أن تلك ما زالت تعيش في العصر الحجري!
« التمستُ غياباً شبه تام عند (المسلمين) المفوِّضين للانقلاب لمفهوم الأمّة الواحدة.. فما كلامهم عن (أنت لبناني لا دخل لك بما يحصل في مصر!) إلا نموذجاً عن فقدان الهوية والبوصلة والعلم! فأين الجسد الواحد الذي إنْ اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحُمّى؟! وأين مَن لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم؟! وكيف ندّعي الإيمان ونعترف بحدود “سايكس بيكو” أكثر من اعترافنا بمغزى الأخوّة في الله من أيّ بلد كنا؟! أهو دينٌ جديد ينشرونه؟! أم على عقولٍ أقفالها؟!
« لم تختلف لديّ كثيراً مشاهد مصر عن مشاهد سوريا قبلها.. مجرمون بعضهم من بعض.. قتل أرواح بريئة.. حرق مساجد عامرة وجثث لأجساد أفضت الروح لربها تبارك وتعالى.. ضربٍ بالعصيّ وسَحْل.. وتلك الأحذية -الغليظة كقلوبهم- التي تجتاح الصدور والرؤوس تروي قصص القسوة والهمجية! مشاهد فاقت دمويّة الصهاينة بأشواط!
تتلعثم الكلمات.. وتستوطن الآهات.. فيا أهل رابعة (إنّمَا وَلِيّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ الّذِينَ يُقِيمُونَ الصّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالّذِينَ آمَنُواْ فَإِنّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ(.. فأبْشِروا!
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة