بائع الالعاب
وقفت في باب المنزل، أتلفت يميناً وشمالاً عسى أن أجد أحداً يُنقذني من تلك الورطة لقد نفذ الغاز من القارورة بينما كنت "أطبخ"، لم أر سوى "بديع" ابن جارتنا المُقعد الذي يبلغ من العمر اثنا عشرة سنة يعتلي شبه عربة مصنوعة من عِدة قطع خشبية متواضعة وأربعة عجلات صغيرة وقد ربط حبلاً بآخرها وكان أحد الأولاد يمسك بذاك الحبل ويجر العربة ذهاباً وإياباً يداعب صديقه بديع ويرفّه عنه، عدت أجول بنظراتي هنا وهناك دون جدوى، وعندما هممت بالدخول إلى المنزل إذ بصوت يناديني... خرجت لأتأكّد من الصوت... إنّه بديع يناديني: "ها أنا يا خالة أريد أن أخدمك"، "أنت يا بديع؟!... إذن اصنع معي معروفاً واحضر لي قارورة غاز جديدة"، قال: "نعم"، أعطيته وبدون تردد القارورة ليستبدلها من عند جارنا فوضعها في حضنه وأمسكها بكلتا يديه وطلب من صديقه أن يقوده إلى الدكان، وعاد بسرعة ووجهه يتهلّل سروراً؛ فما كان مني إلا أن شكرته كثيراً، وقلت له: "لولاك لبقينا بلا غداء"، ابتسم "بديع" وطلب مني أن أزورهم في بيتهم ووعدته بذلك. وبعد عدة أيام لبّيت دعوة بديع فرحّبت بي أمّه وأخوته خير ترحيب وبينما كنا نتبادل الأحاديث تذكّرت أني لم أر بديع فطلبت مقابلته، فخرج من الغرفة المجاورة وعيناه تفيضان بالدمع، سألته عما يُبكيه، فقال لي: "كلهم يهملونني وكأنني تمثال مركون في هذا البيت، فكلّهم يدرسون ويلهون ويفرحون وأنا أنظر إليهم بحرقة يبدو أن الله لا يحبّني". فأجبته: "لا تقل هذا يا عزيزي، إنّ الله يحبّك كثيراً ويجب أن تحبّه كثيراً أيضاً، إن الله سبحانه منّى عليك بنعم كثيرة أهمها: العقل ونعمة البصر وغيرها الكثير التي لا تعد ولا تُحصى، فاسمع يا عزيزي إنّ الله يبتلي العبد ليختبره، وقد ابتلى الأنبياء والصِّديقين من قبلنا ومن بينهم رسول الله وحبيبه محمد صلى الله عليه وسلم، وصبروا جميعهم وارتضوا بحكمه تعالى، ولا ننسى الآية الكريمة التي تقول: (ولنبلونَّكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشّر الصابرين)، وأنت بفضل الله تتمتّع بذكاء وفطنة وإرادة صلبة، عرفتك قوياً طموحاً كنت أراقبك من النافذة أحياناً منهمكاً بتصليح بعض الألعاب والدرّاجات لأبناء الحي بينما هم الأصحّاء يعجزون عن تصليحها". وببراءة الأطفال ابتسم وراح ينظر إليّ بعينين حالمتين بمستقبل أفضل، وقبل انصرافي طلبت من والدته بأن تسعى جاهدة مع والده لمساعدة ولدهما بإيجاد عملاً له أو هواية يمارسها ليصبح عضواً نافعاً في المجتمع غير حاقدٍ أو ناقمٍ على أحد إسوة بأبناء جيله.
وما كانت أيام قليلة تمضي إلا أن كان خاله قد حقق له ما يريد واستأجر له كوخاً في آخر الشارع وبدأ يمارس هوايته ويقوم بتصليح الألعاب القديمة والدراجات ويتقاضى عليها أجراً وأحسّ هذا الطفل الواعد بالأمان والإطمئنان.
وغادرت البلد مع زوجي وأولادي للعمل في بلد عربي ومرّت الأيام ومضى على غيابنا سبع سنوات وعدت إلى بلدنا. ومرّة من المرات دخلت صدفة متجراً كبيراً للألعاب لأشتري هديّة لإبني الصغير وإذ بي أُفاجئ بشاب يافع جالس وراء مكتبه شكله لم يكن غريباً عليّ، وكان هو أيضاً مستغرباً يُحدِّق بي قائلاً: "أنت جارتنا أم خليل... أليس كذلك؟". أجبته: "نعم وأنت بديع ابن جارتنا القديمة؟"، قال: "أجل". سألت عنه وعن أحوال أهله وطمأنني حامداً الله على كل شيء وبفضل الله وبفضل الصبر واصراره على تحدّي الصعوبات نال ما طمح إليه وتغلّب بإيمان على إعاقته واجتاز كل المحن.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن