الزوجة الثانية
تنهَدت فاطمة بكل ما بقي لديها من مقدرة، ولا شك أنها مقدرة ضعيفة جداً، وكيف لا وقد أمضت حتى الآن عشرة أيام تصارع الموت وليست تدري متى سيصرعها؟! وها هي تتنهّد بكل حزن وأسى، وها هي الدموع تنساب على خدّيها الشاحبتين وتحاول جاهدة أن توقفها، ولكن كيف هذا؟!! أجل كيف هذا وهي تراها أمامها؟!! تلك المرأة التي طالما أثارت فيها- كلما رأتها- مشاعر الخوف والرِيبة والغيرة، تلك المرأة التي ما أن دخلت حياتها منذ خمس سنوات حتى تبدّلت كثيرٌ من الأمور.. آه.. يا لها من ذكريات أليمة.. تذكرت فاطمة ذلك اليوم البعيد بكل دقّة وبكل حزن وكأنه حدث البارحة، وما زالت تذكر قسمات وجه زوجها وما تحمل من فرح خجولحاول إخفاءه دون أن ينجح في ذلك- وهو يزفّ إليها هذا الخبر:
أحمد: لقد وجدتها، إنّها (أميّة) قريبة صديقي عماد، إنّها فتاة تقية نقية متفهمة، ولقد شرحت لها الأسباب التي دعتني لهذا الأمر ولقد وافقت أن تكون الزوجة الثانية، ولكن بعد أن تسمع موافقتك بأذنيها! فيا ليتك تتكرمين بأن تذهبي إليها لتخبريها بذلك.
فاطمة: أنا؟!! أنا أذهب إليها؟!! هل جننت يا أحمد؟!!.
أحمد: ألم توافقي على ذلك منذ زمن وانتهينا من هذا الموضوع؟!.
فاطمة: أجل، لقد اقتنع عقلي ووافقت، ولكن بين جوانحي قلبٌ لا يمكن لأحد إقناعه، هل تظنَني بلا أحاسيس، بلا شعور، هل تعتقد أنه بإمكاني أن أقول لها ذلك؟!.
لقد امتدّ يومها النقاش بينهما لمدة ساعتين كاملتين وانتهى بأن أقنعها زوجها بتلك الخطوة الشاقة جداً. وفعلاً تمّ الأمر.. وجاء الأقارب والأصدقاء ليهنّئوا زوجها بزفافه للمرة الثانية، وها هي (أميّة) في الشقة المجاورة لها تماماً، وها هي قد قاسمتها كلّ شيء.. شيءٌ واحد لم تكن لتجرؤ لا هي ولا غيرها بأن تقاسمها إيّاه، إنّه "محمد" طفلها الوحيد الذي لم يشأ الله أن ترزق بغيره.
وها هي (أميّة) تقف أمامها الآن لتلقي عليها نظرات الوداع، وكيف لا؟! ولقد يئست أو كادت من الشفاء، لقد مضى على مرضها عامٌ كامل، شاء الله أن تتعطّل كليتاها معاً، أجل الكليتان معاً، لقد خضعت لغسيل الكلى المتكرر مراراً، ولقد شعرت بإرهاق كبير، قال الأطباء: لا حلّ إلا بنقل كلية سليمة، وهذا الكلام كان قبل هذه لأيام العشرة المريرة، أمّا الآن فإنهم يقولون: حتى لو وجدت هذه الكلية بسرعة- وهذا الأمر شبه مستحيل- فالأمل بالشفاء ضعيف جداً.
وتتابع الدموع طريقها دون توقف، وكأنّها تبوح بما لا يستطيع أن يبوح به اللسان، وكأنّها تقول: آه يا (أميّة) هأنذا أترك لك كلَ شيء.. أجل، لقد كنّا نتقاسم كلّ شيء، وكانت نفسي تضيق ذرعاً بذلك، ورغم عدل أحمد بيننا فقد كنت أطالبه بالمزيد دائماً، وبشكل متوتر غالباً، وكأني أريد أن أمتحنه كلّ يوم، وأشهد الله أنّه كان سريعاً في استرضائي، وأشهد الله أنك ما كنت لتؤذينني بشكل مباشر، ولربما تحمّلت مني الكثير قبل أن تردّي الكيل بمثله... آه.. إنّنا في النهاية بشر نخطئ ونصيب، وهأنذا رحل عن دنياكم ولا أرجو إلا رحمة ربي.. إني أترك لك كلّ شيء حتى.. حتى فلذة القلب محمداً... وزاد الألم والحزن على فاطمة فدخلت في غيبوبة طويلة لم تدر ماذا جرى لها فيها، أجل لم تكن تشعر بأنّ هذا اليوم الذي تخيّلته يومها الأخير كان على العكس من ذلك يوم بزوغ فجر أصيل، شمسه الإيمان، وأشعّته التقوى، ونوره نقاء السريرة، ولم تكن فاطمة تعلم أن أميّة زارت المستشفى منذ أيام، ولكن ليس لزيارتها، وإنّما لتقدم نفسها للفحص الطبي لعلّ إحدى كليتيها تصلح لفاطمة، وكانت النتيجة إيجابية، وقرر الأطباء خوض التجربة رغم حالة فاطمة المتدهورة، وذلك لأن الجراحة كانت الحلّ الوحيد.
وها هو الزوج المسكين ينتظر في الصالة، وبين يدي الأطباء زوجتاه معاً، وأخيراً جاءه البشير بالخبر الذي يتمناه..: نجحت الجراحة والباقي على الله.
تمتم أحمد:- ليس الباقي، ولكن- الكلّ على الله، وهل التوفيق إلاّ من عنده؟! فحمداً وشكراً لا يكافأ على نعمه سبحانه.
ومضت الساعات والأيام، وها هي فاطمة في سريرها تبتسم لشريكتها في الغرفة وفي الحياة: (أميّة) ولسان حالها يقول:﴿.... فعسى ن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً﴾.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن