جريمة في رمضان
لا تظنوا أن قصتي خياليّة بل هي واقعة حقيقية حصلت منذ بضع أعوام.
الزمان: شهر رمضان المبارك.
المكان: المطبخ.
الضحية: زوجي العزيز.
الأيام التي سبقت وفاته كان يضج فيها حيويةً ونشاطاً وسعادة؛ كيف لا؟ وقليلة كانت هي الأيام التي تفصلنا عن شهر رمضان المبارك الذي كان يتجلّى حبّنا له بالكيلوغرامات الزائدة التي كنّا نكتنزها في هذا الشهر، والتي لم تكن تسبِّب لنا ضيقاً وقلقاً لأنّنا كنا نُسارع بعد شهر رمضان المبارك إلى أخصائي التغذية لفقدانها.
يوم وفاته أخذ يُداعب الأولاد ويمازحني وأنا أعدّ الطعام، وعند الإفطار كانت شهيته كما هي العادة كبيرة جداً، لم يترك صحناً (يعتب عليه) كما يُقال في العامية، ولم يتوقف الغزو على طاولة الطعام إلا بعد تناولنا للتحلية التي أشعرتنا جميعاً بالإنهاك لدرجة أننا لم نستطع أن نصلي صلاة التراويح، ثمّ عاد وتواصل أثناء وجبة السحور التي من المفترض أن تكون خفيفة إلا أنّ زوجي أصرَّ أن يأكل ما تبقى من وجبة الإفطار الثقيلة والدسمة... وقتها لم أخفي سعادتي وأنا أراه يأكل الفائض من الطعام؛ فحدثتني نفسي قائلة: "اليوم لن يكون مصيره في سلة المهملات كما جرت العادة في هذا الشهر الكريم".
أثناء تناول وجبة السحور ووسط أجواء البهجة وأصوات قرقعة الصحون والملاعق حصل ما لم يكن في الحسبان؛ فلقد دبّ الرعب في قلبي عندما رأيت وجه زوجي قد انتفخ وتدفق اللون الأحمر إليه... سارعتُ لإحضار كوب من الماء له؛ لم تمضِ ثواني قليلة إلا سمعت بعدها صوت ارتطام بالطاولة، أدرتُ ظهري لأستطلع ما جرى، فوجدتُ زوجي مرمياً على الأرض وبقايا الطعام والصحون المتكسرة متناثرة حوله.
في المستشفى لم يطل انتظارنا دقائق قليلة خرج بعدها الطبيب ليعلن نبأ وفاة زوجي وعندما استفسرنا منه عن السبب أخبرنا أنه توفي من .... التخمة. مشاعر متضاربة انتابتني فور تلقي الخبر (حزن – خجل – تأنيب ضمير)، لحظتها بدأت تتدافع إلى مخيلتي صور أطفال المسلمين الذين يموتون جوعاً في مناطق عدة من العالم: في الصومال وغيرها... وإخواننا في فلسطين الذي تكفي الميزانية التي خصصناها لهذا الشهر أن تسد رمقهم لشهور طويلة...
وبدأت أعقد مقارنة بين صورة زوجي وهو مرمياً على الأرض واللقمة ما زالت في فيه وبين صور المجاهدين الذين يُقتلون دفاعاً عن دين الله وعن أراضي المسلمين المستباحة... شتان ما بين الصورتين.
لحظتها أحسست أني ارتكبت جريمة كبرى بحقِّ نفسي وزوجي وأولادي أيضاً لأني قتلت فيهم الشعور بإخوانهم المسلمين؛ عندما حوّلت شهر رمضان في أذهانهم إلى شهر الطعام؛ وحتى لا أكون السبب في متابعة مسلسل الإجرام هذا قررت إدخال مشاعرنا وأحاسيسنا إلى غرفة الإنعاش من جديد.
بعد هذه الحادثة أصبح رمضان له طعم مختلف؛ فطاولة الطعام التي كانت تزدان كل يوم بأصناف من الأطعمة والحلويات اكتفينا منها بصنف واحد؛ أمّا باقي الميزانية التي اعتدنا أن نخصصها كل عام لهذا الشهر الفضيل فلقد تبرّعت بها لإحدى الجمعيات الخيرية، كما أصبح تقليدنا كل عام استضافة الأيتام في منزلنا. والحمد لله على نِعمه فكم استبطنت مِحنُه التي يبتلي بها عباده مِنحاً تكون خيراً لهم.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن