وقفة مع النفس
عامٌ ينصرم من أعمارنا، وتشرق شمس عام هجري جديد في حياتنا، نتفيّأ ظلاله، ونتنسّم شذاه وعبقه، تتجلى أمام أعيننا ذكرى هجرة رسولنا المصطفى صلى الله عليه وسلم وأصحابه الغرّ الميامين الذين لبوا نداء الإيمان وخرجوا من ديارهم مضطرّين بغير ذنب إلا أن يقولوا ربنا الله. خرجوا تاركين الأهل والمال والمتاع، لا يحملون بين جوانحهم إلا إيمانهم بالله تعالى، متحملين كل ابتلاء وبلاء، وتعذيب وإرهاب.. صبروا وصابروا فكانت هجرتهم إلى المدينة المنورة نصراً لا يهزم، وتاريخاً ناصعاً بالخلود يُسطر.
ما أحوجنا ونحن نستقبل بداية عام هجري أن نعيش بقلوبنا ومشاعرنا وواقعنا وسلوكنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نتذكر حقيقة غائبة بأن ما مضى من الأيام والشهور والأعوام إنما هي مراحل ومطايا تبعدنا عن الدنيا وتقربنا من الآخرة، تبعدنا عن القصور، وتقربنا إلى القبور.
وما هذه الأيــــــام إلا مراحل * يحثُّ بها داعٍ إلى الموت قاصدُ
وأعجبُ شيء لو تأملت أنها * منازل تُطوى والمســــــافر قاعدُ
وإن في تقلب الليل والنهار وتعاقبهما لعبرة للمعتبرين، وذكرى للمتذكرين، وهكذا (يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِّأُولِي الأَبْصَارِ) (النور: 44). ولنعلم أن أيامنا هي خزائن أعمالنا، فلنملأها بأحسن الأعمال، وسيرى كل عامل ما عمل: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً) (آل عمران: 30).
إن من أعظم الغفلة أن يعلم الإنسان أنه يسير إلى أجله ويدنو من نهايته، فيفرح بانقضاء أعوامه سادراً في غفلاته لا يحتسب ليوم الحساب ولا يتجهز ليوم المعاد، ولا يتزود من خير الزاد! لَكَم يصدق عليه قول القائل:
إنا لنفرح بالأيــــــــــــــــــــــام نقطعها * وكل يوم مضى يُدني من الأجل
فاعمل لنفسك قبل الموت مجتهداً * فإنما الربح والخسران في العمل
يقول الحسن البصري رضي الله عنه: «كيف يفرح بالدنيا مَن يومُه يهدم شهره، وشهره يهدم سنته، وسنته تهدم عمره؟ كيف يفرح بالدنيا من يقوده عمره إلى أجله وتقوده حياته إلى موته؟».
عام مضى وانقضى سيكون شاهداً لنا أو علينا، ولن يعود إلى يوم القيامة، فهل حاسبنا أنفسنا وتفكرنا في انقضاء أعمارنا وتزودنا لسفرنا؟! فالمؤمن يقظ بأمسه ويجتهد في يومه ويستعد للقاء ربه.. من أحبّ لقاء الله أحب الله لقاءه، وما من يوم ينشقّ فجره إلا ينادي: يا بن آدم أنا خلق جديد وعلى عملك شهيد فتزود مني فإني إذا مضيت لا أعود إلى يوم القيامة!
لنقف مع أنفسنا مع بداية هذا العام وقفة طويلة نحاسبها ونعاتبها ونسائلها: بم ملأنا صحائفنا؟ وماذا أعددنا لسفرنا؟ فالأيام تسير بنا، وكل الناس يغدو فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها! كتب أحد السلف إلى أخ له: «يا أخي يُخيّلُ إليك أنك مقيم، بل أنت دائبُ السير تُساق مع ذلك سَوْقاً حثيثاً، الموت موجّهٌ إليك، والدنيا تُطوى من ورائك وما مضى من عمرك فليس براجعٍ عليك حتى يأتيك يوم التغابن».
فلنستيقظ من غفلتنا، ولننهض من رقدتنا، ولنندم على تفريطنا، ولنحذر من الأيام وتسارعها فإنها غرارة، ولنحذر من الدنيا وزخارفها فإنها غدارة؛ فأيامنا تطوى، وأعمالنا تُدَوَّن، وأكفاننا تُنسج، وموعدنا قد اقترب...
يقول ابن مسعود رضي الله عنه: «ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه نقص فيه أجلي ولم يزدد فيه عملي». فأين الندم على الذنوب؟ أين الحسرة على العيوب؟ شمس الحياة أخذت في الغروب، فما أقسى تلك القلوب وقد أتاها ما لَيَدكّ الحديد (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18).
فلنبادر ولنغتنم أوقاتنا قبل أن يفاجئنا هاذم اللذات ومفرق الجماعات، وقبل أن تقول نفسٌ يا حسرتا على ما فرطْتُ في جنب الله... روى ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل وهو يعظه: «اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وصحتك قبل سقمك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك، وحياتك قبل موتك» رواه النسائي. فطوبى لمن اغتنم حياته بما يقربه إلى خالقه، وطوبى لمن شغلها بالطاعات واجتناب السيئات، وطوبى لمن اتّعظ بتقلّبات الليل والنهار.
فالبدار البدار.. فليس هناك طريق للهرب أو الفرار، ولسوف نُسأل يوم القيامة عن أربع؛ يقول صلى الله عليه وسلم«لا تزول قَدَما عبدٍ يوم القيامة حتى يُسأل عن أربع خصال: عن عمره فيم أفناه؟ وعن شبابه فيم أبلاه؟ وعن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه؟ وعن عمله ماذا عمل فيه؟» البيهقي.
فهل أعددنا الجواب لهذا السؤال لنكون ممن ربح دنياه وآخرته؟ أم نكون ممن خرج من الدنيا مفلساً مفرطاً خاسراً والعياذ بالله (وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِّلْعَبِيدِ) (فصلت: 46) ولكل زارعٍ ما زرع! فالأيام مطايا، فلنعدّ العدة قبل حلول المنايا، فقطار العمر لا يتوانى ولا يهدأ، بل يسرع بنا ويمضي بغفلتنا ولا ندري متى نرزأ!
ونحن نعيش معاني الهجرة وأحداثها، لنعاهد الله أن تكون هجرتنا بنبذ الأحقاد والأضغان، وهجر الخطايا والذنوب.. سالكين في سبيل ذلك ما يُرضي الله من الدروب.
وأنت يا من:
قطعت شــــهور العام لهواً وغفلة * ولم تحترم فيما أتيت المحرّما
فهل لك أن تمحو الذنوب بعَبرةٍ * وتبكي عليها حســرةً وتندُّما
وتســــــتقبل العام الجديد بتوبة * لعلك أن تمحو بــــها ما تقدّما
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة