أسئلة ثائرة .. من فتاة حائرة
تحية عطرة وبعد..
أكتب إليك بعد أن أضناني البحث والتفكير في أسئلة لم أجد من يجيبني عنها وكلي أمل في أن أجد عندك ضالتي.
أنا فتاة أبلغ من العمر 23 عاما نشأت في بيت مفكك يحكم فيه أبي بقبضة من حديد.
نشأت وأنا أرى أبي يضرب أمي لأتفه الأسباب. كبرت وأنا أسمعه يعيرها بجهلها وقرويتها وفقرها ويتمها، فأمي يتيمة الأب والأم، والكبرى بين إخوانها الذين ما إن كبروا حتى تاهوا في ميادين الحياة ونسوها تماماً ما زاد في ضيمها وسخرية أبي منها.
يعيرها ببناتها فأبي يعشق الأولاد وأمي لم تنجب له سوى البنات وولد واحد جاء في الوقت بدل الضائع!
نحن أربع بنات وولد.
الكبرى تكبرني بثلاث سنوات، ثم الأخرى وهي تصغرني بعام ونصف والصغيرة في السابعة عشرة من عمرها، وكلهن نسخ مكـررة عـن أمي في طيبتها وتسامحها وتجاوزها عن أخطاء الآخرين، ما عداي فأنا كما يسميني أبي العاصية والمتمردة والسيئة والمسترجلة إلى آخره من الألفاظ الرائعة التي ما زادتني إلا قوة وثقة بنفسي.
كنت أطلب من أمي أن تقف في وجه أبي وتطالب بحقوقها، ولكنها كانت تنهرني بأن هذا من العقوق وأن المرأة يجب أن تصبر وتتحمل حتى تنال رضا الله والجنة.
لماذا يجب على المرأة أن تصبر وتحتسب عندما تبتلى بزوج سيء بينما الرجل يقال له تزوج بأخرى؟ لماذا الرجل لا ينقصه شيء كما يقولون والمرأة تتحمل مسؤولية أي خلل في بيتها! لماذا النظرة الذكورية سائدة في مجتمعنا؟ لماذا عندما تطالب المرأة بحقها تكون عاصية لزوجها وزوجها ينتزع حقوقه منها انتزاعاً؟!
لماذا حتى المشايخ لا يحبذون فكرة أن تطالب المرأة بحقها ويطلبون منها الصبر حتى تنال الجنة كما يقولون!
لماذا كل شيء مرتبط بالرجل حتى الجنة؟؟؟؟؟!!!!!!!
كرهت المجتمع ونظرته السقيمة الجبانة التي تقدس الرجل وتعبده.
لذلك قضيت السنين الستة الماضية من عمري وأنا أدعو الله أن يرزقني بالرجل الذي يغير نظرتي للرجل ويعوضني عن كل ما حرمت منه مادياً كان أم معنوياً.
دعوت الله أن يرزقني أبا لا زوجاً حتى يعوضني ما فقدته في أبي.
وفعلا حقق الله لي ما أردت وتم عقد قراني على زميلي في العمل وهو شاب من أروع ما خلق الله وجدت فيه 95% مما كنت أحلم به ولكن المشكلة التي من أجلها أكتب إليك الآن هي أني أخاف الغد!
أخشى أن أعتمد عليه في كل شيء ويغدر بي. صرت لا أثق بالرجال ولا أريد أن أُحمِّل زوجي وزر أبي.
لا أريد أن أخسره، ولا أريد أن أكون نسخة عن أمي ولا أعلم ماذا أفعل فهو دائما يشكو من عصبيتي وأنا أتعمد أن أظهر له أني لست ضعيفة ولا جاهلة لأجعله يحترمني ولكن أخشى أن تأتي هذه الطريقة بنتائج عكسية.
قل لي كيـف أتخلص من رواسب الماضي وأحمي نفسي من نكبات المستقبل؟ إني أخاف من زوجي، أخاف من حبه الجنوني لي، أخشى أن ينتهي حبه أو حتى يقلّ! حتى إني عندما أحسست أني بدأت أحبه صرت أدعو الله أن يجعل حبه في قلبي معتدلاً.
لا أريد أن يسيطر عليَّ أي رجل عاطفياً أو مالياً أو اجتماعياً.. أنا أكره الرجال لأننا بسببهم محرومات من كل شيء ونحتاج لمباركتهم حتى نستطيع التمتع بأبسط حقوقنا التي أعطيت لنا قبل 1400 عام.
سمعت من قبل عما يسمى الذكاء العاطفي وهو كيف يحب الإنسان ويعطي ويمنع بذكاء بدون أن يحرم شريكه وبدون أن يضيع حقوقه هو الآخر. وسمعت أيضاً أن لكل رجل ما يسمى بالخريطة القلبية وهي التي إن عرفتها المرأة استطاعت أن تضمن حب زوجها وإخلاصه للأبد وغيرها من المواضيع التي تناقش الحب بذكاء وعقلانية. أريد أن أعرف كيف أجعل زوجي مفتوناً بي للأبد؟ كيف أجعله ينظر لي بعد 20 عاماً نفس نظرته الآن لي إن لم يكن أفضل.
لا أريد أن أعود لبيت أبي ولا أريد أن أعيش في شقاء.
أني أكره أن أكون مضطرة لإرضاء زوجي حتى لا أعود لأبي.
أعتذر لأن موضوعي قد يبدو شائكاً وعباراتي غير مرتبة، ولكني أرجو منك بعد الله أن تكون الشخص الذي يهديني سواء السبيل؛ فقد مللت من نصائح أمي التي تمحو شخصيتي وتجعلني تابعة لزوجي بلا رأي أو كلمة.
أرجو منك أن لا تهمل رسالتي فأنا في أمس الحاجة لك ولخبرتك.
ولك مني جزيل الدعاء في جوف الليل الأظلم.
شكراً
بسم الله الرحمن الرحيم
ابنتي،
أدعو الله أن يشرح صدرك، وأن ينير بصيرتك، وأن يفرج همك، وأن يسعدك في زواجك؛ بل في حياتك كلها.
ثم أشكر لك ثقتك فيَّ، وكتابتك إليَّ، داعياُ الله أن يوفقني في الإجابة عن أسئلتك، وتبديد قلقك وحيرتك.
أول أمر أريد أن أوضحه لك هو أن أفعال بعض المسلمين ليست حجة على الإسلام.. بل الإسلام هو الحجة عليهم. ومن ثم فإن ما قام به والدك، وما يقوم به غيره، ليس حجة على الإسلام.. بل الإسلام حجة عليهم؛ لأن ما يفعلونه ويقولونه، مما هو مخالف للإسلام، مسؤولون عنه ومحاسبون عليه. ومن ذلك ما ذكرته عن ضرب والدك لأمك على أسباب تافهة، وسخريته منها، وتفضيله الذكور على الإناث، فهذا كله لا يقره عليه الإسلام، وهو مخالف لتعاليمه، ولما كان عليه النبي أفضل الصلاة والسلام.
ولهذا فما كان لك أن تنسبي ما فعله والدك إلى الإسلام حتى قلت (لماذا حتى المشايخ لا يحبذون فكرة أن تطالب المرأة بحقها ويطلبون منها الصبر حتى تنال الجنة كما يقولون!. لماذا كل شيء مرتبط بالرجل حتى الجنة) ثم وضعت خمس إشارات استفهام بعد تساؤلك هذا.
وأقول لك: ليس ما قلته كل الحقيقة، فليس كل شيء مرتبطاً بالرجل، ولعل ما هو مرتبط بالمرأة أكثر مما هو مرتبط بالرجل، والجنة التي ضربتها مثلاً في كونها مصير المرأة التي يموت زوجها وهو راض عنها، هذه الجنة مرتبطة في الإسلام بالمرأة أكثر من الرجل. وهذه أحاديث تظهر هذا وتوضحه وتؤكده:
يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الزمها فإن الجنة تحت أقدامها) أخرجه أحمد والنسائي. وفي رواية: (الزم رجلها فثم الجنة) فهذا الحديث يجعل المرأة الأم طريقاً للجنة.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (ما من مسلم تدرك عنده ابنتان فيحسن صحبتهما إلا أدخلتاه الجنة) البخاري.
ولا تنسي حديثه صلى الله عليه وسلم الذي يقدم فيه صحبة الأم على صحبة الأب ثلاث مرات: (أمك ثم أمك ثم أمك ثم أباك) متفق عليه.
وهكذا يا ابنتي يقدم الإسلام المرأة على الرجل ويوصي بها، بل إن القرآن الكريم ذمَّ وعاب من يضيق إذا بشر بقدوم الأنثى فقال سبحانه (وإذا بُشّر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسوداً وهو كظيم يتوارى من القوم من سوء ما بشر به أيمسكه على هون أم يدسه في التراب . ألا ساء ما يحكمون ) النحل 58 - 59.
ويقول سبحانه ( وإذا بُشّر أحدهم بما ضرب للرحمن مثلاً ظل وجهه مسوداً وهو كظيم ) الزخرف 17.
أرأيت يا ابنتي كيف يحفظ الإسلام مكانة المرأة، ويعلي شأنها، ويوصي بها، وينهى عن الإساءة إليها وعن ظلمها؟
ولقد تساءلت أيضاً: (لماذا يجب على المرأة أن تصبر وتحتسب عندما تبتلى بزوج سيء بينما الرجل يقال له تزوج بأخرى؟! لماذا الرجل لا ينقصه شيء – كما يقولون – والمرأة تتحمل مسؤولية أي خلل في بيتها؟!)
وهذا أيضاً كلام لا يذكر الحقيقة كلها، فالإسلام يأمر الرجل بالصبر على زوجته، ويأمره بتحمّل مسؤوليته، كما يأمر المرأة؛ وربما أكثر من المرأة. فالقرآن الكريم يوصي بالصبر على المرأة حتى وإن كرهها زوجها. يقول سبحانه ( وعاشروهن بالمعروف ؛ فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيراً )النساء 19.
هل وجدت وصية أعظم من هذه الوصية بالنساء؟!
أما تحمل الرجل مسؤولية المرأة فيقول النبي صلى الله عليه وسلم: (كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته، والأمير راع، والرجل راع على أهل بيته، والمرأة راعية على بيت زوجها وولده، فكلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته) متفق عليه.
ولقد أقررت في إحدى عبارات رسالتك بأن المرأة نالت حقوقها في الإسلام قبل 1400 سنة، وهذا يشير إلى أن ظلم المرأة إنما من أتى من العادات والمفاهيم الخاطئة.
وأصل إلى استشارتـك بشأن الشاب الذي عقد قرانـه عليك وقولـك: (إني أخاف مـن الغد) (أخشى من أن أعتمد عليه في كل شيء ويغدر بي) (لا أريد أن أخسره) (كيف أتخلص من رواسب الماضي؟) (أريد أن أعرف كيف أستطيع أن أجعل زوجي مفتوناً بي للأبد؟). ولعلي أجبت عن أسئلتك هذه في ما كتبته ونشرته في كتب ومجلات مختلفة، وسأحاول أن أوجزه في الآتي:
* هذا الشاب الذي صار زوجك ووصفته بأنه (من أروع ما خلق الله ووجدت فيه 95 % مما كنت أحلم به)، هذا الشاب، أو هذا الزوج، نعمة كبيرة ينبغي قبل كل شيء أن تحمدي الله عليها وتشكريه سبحانه كثيراً.
* ينبغي أن يصحح هذا الشاب تعميمك الخاطئ في اتهام جميع الرجال بأنهم مثل أبيك، وكذلك ينبغي أن تعلمي أن جميع النساء لسن مثل أمك في صبرها ورضاها وطاعتها زوجها. ينبغي أن تبتعدي عن إطلاق أحكام عامة، ولنتعلم هذا من القرآن الحكيم الذي يكثر فيه لفظ ((بعض)) الذي تكرر ومشتقاته أكثر من مائة مرة.
* يغلب عليك التشاؤم، والتشاؤم عدم حسن الظن بالله، وهـو شـرك؛ فقد قـال النبي صلى الله عليه وسلم) (الطيرة شرك، والطيرة هي التشاؤم. عليك أن تحسني الظن بالله تعالى، وتتفاءلي بالمستقبل، ولقد كان صلى الله عليه وسلم متفائلاً. جاء في الحديث الصحيح (كان صلى الله عليه وسلم يتفاءل ولا يتطير، وكـان يحب الاسم الحسن) أخرجه الإمام أحمد.
لذا أرجو أن يغيب عن كلامك واعتقادك ما قلته (أخاف الغد) (أخشى من أن أعتمد عليه في كل شيء) (صرت لا أثق بالرجال) (أخشى أن ينتهي حبه)...
* لقد سألت أسئلة مهمة عن حياتك المقبلة مع زوجك وسأحاول إجابتك عنها بإيجاز. وأبدأ بسؤالك (لا أعلم ماذا أفعل؛ فهو دائماً يشكو عصبيتي وأنا أتعمد أن أظهر له أني لست ضعيفة ولا جاهلة حتى أجعله يحترمني.. ولكني أخشى أن تأتي هذه الطريقة بنتائج عكسية) وخشيتك هذه في محلها، فالرجل لا يحب المرأة (العصبية) التي تسرع في الغضب وتكثر منه. عليك أن تتوقفي عن ذلك فوراً حتى لا تخسري زوجك وحبه لـك. كـذلك عليك أن تتوقفي عن ظهورك وكأنك ندٌ له، بل لا بأس من إظهار شيء من ضعفك، وحاجتك إليه، وعـدم استغنائك عنه، فهذا أدعى إلى زيـادة حبه لك.
* سألتني أيضاً (كيف أتخلص من رواسب الماضي وأحمي نفسي من نكبات المستقبل؟) وتنجحين في هذا إذا فعلت أربعة أمور:
1- تطوين صفحة الماضي وتمحين ذكرياتها الأليمة بالدعاء إلى الله أن يعينك على ذلك.
2- بالتوكل على الله سبحانه في شأنك كله ولا تتكلين على نفسك وجهدك وعلمك.
3- باستمرارك في طلب المشورة وسؤال أهل الذكر.
4- بالرجوع إلى القرآن والسنة في كل عمل تقومين به.
* قلت في رسالتك (عندما أحسست أني بدأت أحبه صرت أدعو الله أن يجعل حبه في قلبي معتدلاً)، وهذا يشير إلى عقل راجح وتفكير سليم؛ وهو ما دعا إليه النبي صلى الله عليه وسلم حين قال (أحبب حبيبك هوناً ما عسى أن يكون بغيضك يوماً ما، وأبغض بغيضك هوناً ما عسى أن يكون حبيبك يوماً ما) حديث صحيح أخرجه البخاري في الأدب المفرد.
هذا الحب المعتدل هو الذي يقيك به الله سبحانه من صدمات المستقبل.. وأرجو أن لا تكون هناك صدمات.
* سألتني (كيف أجعله مفتوناً بي إلى الأبد؟) وأجيبك بصراحة: لا تحلمي بهذا كثيراً، بل أريد أن تكوني أكثر واقعية فيكون سؤالك (كيف تستقر حياتي معه ونتبادل المودة والرحمة؟). والإجابة عن هذا السؤال طويلة، شرحتها في ما كتبت وحاضرت، لكني اختصرها لك في عبارة الأم العربية التي نصحت ابنتها فقالت لها (كوني له أمة يكن لك عبداً).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن