وفجأة .. مات إلياس
اعلَم أن خير أيامنا هو اليوم الرباني.
هو ذلك اليوم الذي يمرُّ ويكون رضا الرب فيه من نصيبنا.
أما ما سوى ذلك، فابكِ يا أنا وابكِ يا أنتَ عليه الكثير.
إلياس صديقي وصاحبي في العمل.
أحسَبه صالحًا ولا أُزكِّيه على الله.
صحيحُ البدن، مُعافى، لا مرض به، سليم تمامًا.
شاب خلوق يافع، يعرف ربَّه، يؤدي الصلاة.
بيننا ومع زملائه كان موجودًا في العمل.
أتمَّ يومه في عمله كاملاً.
فجأة ذهب بعد العمل لزوجه وأبنائه.
إلياس يموت، إلياس قد مات!
مات إلياس ولم يكن به مرض.
مات إلياس بعد يوم حافل بالكد والإخلاص في عمله.
مات إلياس هي حقيقة أكتبها، وليست قصة من وحي، أو استلهامًا من خيال.
مات إلياس بعد أن أتمَّ يومه في عمله صحيحًا معافًى تمامًا.
أدَّى ما عليه لربه وما عليه لعمله.
مات إلياس وقامت قيامته.
وسأموت كما مات أخي إلياس، لا أدري فجأة مثله، أو بثوبٍ آخرَ يأتي على هيئته الموت.
المهم سألحق بإلياس، سألقى مصيره، حتمًا سألقاه.
وستقوم قيامتي كما قامت لإلياس قيامته.
فيا نفسي ويا كلَّ نفس، يا أيتها التائهة المتخبِّطة في طرقات الدنيا:
ألا تعلمي أنه إذا مات ابن آدم قامت قيامته؟
فإلياس ودون سابق إنذار قد مات وقامت قيامته.
ألا يا نفس ويا كل نفس، فشمِّري لدار المُقامة؛ فإنما الدنيا غَرْسٌ.
ألا يا نفس ويا كل نفس، فاحذري الشرك بربكِ، ولا تَستغربي إذا قلت لكِ: احذري الشرك بربكِ.
فربما تسأليني ويسألني غيرك من الأنفس: كيف يا صاحبي أُشرك بربي وأنا المُوحِّدُ المسلمُ؟
ألستِ يا أيتها الأنفس ربما يئستِ وقنَطتِ لظرف مررتِ به مُؤلِم، أو لظُلمٍ قد وقع عليكِ قاسٍ؟
ألا تعلمين أنَّ الله قد قال: ﴿ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]؟
ثم إياكِ يا أيتها الأنفس وحقوقَ العباد، احذريها!
احذري التفريط أو التقصير في حقوقهم؛ فإنَّ الله ﻻ يَغفر ذلك إلا إذا عُدتِ يا أنفس متواضعة مُنكسِرة لاسترضاء من قصَّرتِ في حقهم.
فإن الله يا نفسي لن وﻻ يغفر ذلك إلا إذا عُدتِ بنفسك متواضعة لاسترضاء هؤلاء العباد.
ثم اعلمي يا نفسي أنه إذا لم يختلط الرجاء في الله بالخوف منه؛ فذاك هو الاتكال بعينه.
فالرجاء والخوف هما جناحا المؤمن في دار الدنيا.
ثم عليكِ بالسريرة بينك وبين الله صاحب الأسرار، العزيز المتعال الغفَّار، اجعلي بينك وبين الله سريرة ﻻ يعلمها إﻻ هو، فليس هناك واللهِ أفضل وأسعد للعبد من عمل عمِلَه فأخفاه
أخفاه حتى لا يعرفه الناس، أخفاه طمعًا فيما عند ربِّ الناس، ورجاءً لما هو مُدَّخر أو يأمُل أن يُدَّخر له في سماء الله عند رب السموات والناس.
ثم لا تنسَي يا نفسي الإحسان، عاملي الناس بالإحسان؛ فالدين المعاملة والدين سلوك.
وتذكَّري أنكِ لا تتميَّزين ولن تتميَّزي عند الله إلا بتفوُّقكِ في عالم القِيَم والأخلاق.
فاللهَ اللهَ في الصدق وحفظ العهد، والسر والمواثيق بينك وبين الله، والمواثيق بينك وبين الناس؛ فذلك كله من مقتضيات منظومة القيم.
وإحسان العشرة، والوفاء، والمحافظة على اللُّحمة في البيوت ودعم استقرارها - هو أيضًا من منظومة القيم الإسلامية والإنسانية المطلوبة.
ورفض الباطل، وحب الحق، والنصح بالحسنى، وحفظ الأمن، والاعتدال، ولِين الجانب - هو أيضًا من منظومة القيم الأخلاقية والإسلامية والإنسانية المطلوبة
والحفاظ على الأعراف والتقاليد - ما دامت لا تَصطدم مع الإسلام - هو أيضًا من ضمن منظومة القيم الأخلاقية والإسلامية والإنسانية.
وهكذا يا نفسي تلك منظومة كاملة يفرزها دينكِ العظيم الإسلام، الذي به نَفخَر ونَعتز، نسلكه ونمارسه عملاً قبل القول، بحبٍّ ورِفق، لا بتطرُّف ولا تفريط ولا إفراطٍ.
اعلمي يا نفسي ويا كل نفس:
أن عبادتك لله وحدها لن تغني عنكِ من الله شيئًا؛ فليس الإسلام مجرد صلاة وزكاة، وحج وصوم، ومواعظ ومحاضرات، وكتابة وفقط، بل الإسلام مجموعة كاملة قيِّمة من الأخلاق الفاضلة، ونُخبة من أعظم القيم القيِّمة، تلك التي لا تتوافر إلا في ديننا الجميل الذي ارتضاه الله لنا دينًا.
يا نفسي ويا كل نفس:
ألا تعلمين أن أساس الإيمان ما وقَر في قلبكِ، وصدَّقه عملكِ وفعلكِ وسلوككِ على أرض الواقع؟
يا نفسي ويا كل نفس:
اطلبي ما عند الله، وافعلي ما أمركِ به، وﻻ تنظري إلى خلقه، فإن نظرتِ إلى خلقه تعبتِ ولن ترتاحي؛ لأنك قد لا تجدين ما يُريحكِ، أما إذا نظرتِ إلى ربكِ سارعتِ إليه واشتقتِ، وسَمَتْ روحُك، ثم فاضتْ وارتقتْ، وسكنتْ وسكنتِ، وهطَل الخير عليكِ من فوقكِ ومن تحتكِ، ونلتِ السعادةَ كلَّها من فضل ربكِ وربي.
نفسي يا مسكينة ويا كل نفس مثل نفسي:
ﻻ تنامي وفي صدركِ ضغينة، فالدنيا دنيَّة دنيئة حقيرة، لا تَستحق؛ فهي قصيرة تافهة.
ولا تنسَي أنكِ قد لا تُصبحين إلى الصباح؛ فبادري إلى من ظلمتِه لتُسرعي في ردِّ مظلمته.
وإلى من ظلمكِ وفوِّضي لله أمركِ واعفِي عنه؛ فإنَّ ذلك من أبواب جنتكِ
نفسي يا مسكينة ويا كل نفس مثل نفسي:
ﻻ تكذبي ولا تغُشِّي ولا تدوري؛ فالله بكِ وبكل الخلق عليم؛ فهو مَن لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء.
واعلمي أن إلياسَ في عمله لم يكن غشاشًا ولا كذابًا.
واعلمي أن الكذب غشٌّ صريح، فمن غشَّنا فليس منا، والغش والكذب أنواعه كثيرة، وأشكاله لا حصر لها، وأن الكذب والغش لا يجر سوى البلاء والشرور؛ فالكذب والغش كله سوء وكله وباءٌ.
ولا يترك صاحبه إلا بعد أن يُبغِّض الناس فيه، ويُبغِّض الله فيه، فتَسقط عند الناس هيبته، وعند ربه يُكتب كذَّابًا غشَّاشًا.
فاصدُقي يا نفس ويا كل نفس؛ فإن الصدق أساس الخيرات كلها، وهو راحة للبال واطمئنان، وهو من طرق الهداية إلى الجنان.
ثم لا تَنسي لسانك، تلك القطعة الصغيرة من اللحم، لا تنسي استعمالها استعمالاً يُنجيكِ وينجيكِ بفضلها، رطِّبيها بذكر الله، ولا يزال لسانكِ رطبًا بذكر الله، في متجركِ، في مكان عملكِ، في سيارتكِ، في خَلوتكِ، في جلوتكِ، رطِّبي اللسان، استغفار يُرضي الغفار، تسبيح تجعلي منه للمغاليق مفاتيح.
مداومة الصلاة على الحبيب تَجلِب لكِ كلَّ خير، وتُغنيكِ عن أي طبيب.
مسبحة في يدك حرِّكيها مع اللسان بالألْف والآلاف؛ فتكون لكِ مفاتيحَ لمغاليق الرزق، ومُجْلِبةً لحياة قلبكِ، واستحقاقًا لنيل رضا ربكِ وقُربِ
ﻻ تُفوِّتي فرصةً من فرص الخيرات، أسرعي لا تُؤجِّلي؛ حتى لا تتأخَّر عليكِ الخيرات الكثيرات.
إياكِ واستبطاءَ الطاعة، وتأجيل الصدقة، وتسويف التوبة والاعتذارِ إلى الخلق.
دعكِ يا نفسي ويا كل نفس مثل نفسي:
من الغرور والتكبُّر، والغطرسة والجدال والتعنُّت؛ فأنتِ نُطفة، وأنتِ من ماء.
مصيركِ في جُحرٍ صغير أبعاده متر في مترين.
مصيركِ رائحة مُنتنة، ودود بشِع، وذباب أزرق مُخيف
مصيركِ مكان مُعتم، ضمَّة صعبة، عظْم يَبْلَى، جسد يتحلَّل؛ فعلامَ الكِبْر؟
فعلام الكِبْر وعلامَ التعالي يا نفسي يا أيتها الصغيرة؟
فإلياس قد مات!
فلتَحذري يا نفس ويا كل نفس مثل نفسي:
من إهانة الخلق، لا تنظري إليهم نظرة دونيَّة وكأنكِ في الفوق وهم في الدُّون والدَّنيَّة.
ثم النوافل، وما أدراكِ ما هي؟
هي وصال مع الله، زيادة وحب وتكريم منه واستزادة، وفي الحب زيادة.
بها تزداد ربانيتكِ، وبها يَبتعد شيطانكِ، وبها يأتي إليكِ ربُّكِ مُهروِلاً.
أكثري يا نفس من النوافل؛ فهي تَجلِب لكِ القرب من الله، وما يزال يتقرب إليَّ عبدي بالنوافل حتى كذا وكذا وكذا...، فتَصيرين يا نفسي نفسًا ربانية.
أخيرًا ومن أجل مصير قد يكون مفاجئًا كمصير أخي إلياس.
لا تَحزني يا نفس ويا كل نفس، أبدًا لا تَحزني.
لا تَجزعي لا تَيْئَسي.
فالآخرة خير لكِ وأبقى.
هي الحيوان لو كانوا يعلمون.
رحمك الله يا أخي يا إلياس.
وصلِّ اللهم على نبيِّنا محمدٍ معلم الخير والفضيلة للخلق والناس
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة