رمضان... انتفاضة روح وثورة قيم
لطالما تحدث الخبراء عن حاجة الإنسان اليوم إلى التنمية البشرية والاجتماعية والاقتصادية... لكي يحقق السعادة؛ ووُضعت لذلك نظريات، وانشغلت به مراكز البحوث، وأُقيمت دورات تدريبية... ورغم كل التقدم الذي حصل في هذا المجال بقيت في جهود التنمية على المستوى الإنساني حلقة مفقودة لم تُعط حقها بعدُ من البحث لكي تكتمل السلسلة... إنها التنمية الروحية.
لقد أحدث إنسان العصر الحديث ثورةً في المعلومات والاتصالات، وكاد يبلغ القِمة في الابتكارات التي نقلت البشرية نُقلة نوعية في سُلم الحضارة، فأصبحت الحياة أكثر يُسراً وسهولة... وبفعل التقنية الحديثة خَبر الإنسان مختلف أنواع المُتع "المادية"، وكان كلما أخذ منها أغراه بريقها بطلب المزيد... ورغم كل ذلك لم يحصل على السعادة التي يريد، ولم يمَلّ من ترداد السؤال نفسه: أين أجد السعادة؟!
غير أن هذا الإنسان عندما قام بثورة الماديات وتعمَّد إخماد حضور الروح في خطة حياته، لم يدُر في خلده أنه بذلك يقضي على مقوِّمات هذه الحياة، وعلى صلاحية وجوده في هذا الكون.
ورُب سائل يسأل: كيف ذلك وقد بلغ ما بلغ من رفاه العيش بتألقه في عالم المادة؟
وأقول: إن الله الخبير بدقائق نفس الإنسان وبمقومات استقامة وجوده على الأرض قد بيّن في كتابه بأن الفلاح يكمن في تألق الروح، والخيبة والخسران يكمنان في إخمادها: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا. وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا).
ومع كوننا لسنا بحاجة لتقديم الدليل بعد قول الخبير، غير أننا للتنزل نقول بأن الواقع يثبت بالبرهان القاطع أن التدهور على الصعيد الروحي يتبعه انحدار واضح في شخصية الإنسان بمختلف أبعادها مهما بلغ من ثراء ومن رفاه، وأسطع مثال على ذلك أولئك الذين ينتحرون وقد انغمسوا بأنواع الملذات واستفادوا من التكنولوجيا الحديثة أيما استفادة... غير أنهم افتقروا إلى ركيزة أساسية من ركائز الحياة... إنها ركيزة اتصال الأرض بالسماء عبر معراج الروح إلى بارئها... فلَكَم خسر الإنسان عندما جعل الأرض بما عليها غاية وجوده ومنتهى اكتشافاته وملهم ثوراته، فأغرق في إعمارها وكأنما قيل له: إنك خالد في الدنيا فابلُغْ الكمال فيها ما استطعت، ولا تشغل نفسك بغير ما تراه عيناك. مع أن الآخرة هي الأصل الذي ينبغي أن يبني عليه الإنسان توجهاته في هذه الحياة، والدنيا هي الاستثناء؛ يقول تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الآخِرَةَ وَلا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا).
وكان يكفي المنتحرين لو فهموا بفطرتهم معنى قول رسول الله (ص): "عجباً لأمر المؤمن، إن أمرَه كله له خير وما ذلك إلا للمؤمن: إن أصابته سَرّاءَ شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضَرّاءَ صبر فكان خيراً له". ومقاما الشكر والصبر من أرفع المقامات التي ترتقي بروح الإنسان، فلا يكتئب ولا يقلق ولا يفكر بالانتحار، لأنه راضٍ بأقدار الله مطمئن القلب بها عارف بأن ما يصيبه من ابتلاءات إنما هي عوارض من شأنها أن تزول مع استقبال أول أيام الآخرة.
وعندما فقَدَ الإنسان روحه، افتقد معها كل معنى إنسانيّاً وكل قيمة راقية تُعطي للحياة بُعدها الجمالي؛ ولنتأمل في قيم الحق والعدل والخير والحب والبذل والتآخي والتعاون والإيثار والجمال والرقي الخُلُقي... كلها قيم نفسية واجتماعية أصبحت "بالية" في حِسِّ الماديين لا تتماشى مع الموضة ولا تنسجم مع متطلبات الحياة المعاصرة... لم يبق منها غير آثارها وأخبارها... وهذا سر سيادة "قِيم" الغاب على المستوى الاجتماعي والسياسي والأمني والاقتصادي والتربوي...
القيم التي تضبط السلوك الإنساني، وتحقق للإنسان التوافق النفسي والاجتماعي، وتُسهم في توحيد أفراد المجتمع على أساسها... قد فُرِّغت من مضامينها وأصبحت شعارات ليس لها نصيب من التطبيق... الأمر الذي تطلّب إحداث ثورة تقلب الأوضاع القائمة، وتعدّل ما انحرف من تصورات خاطئة، وتعيد الأمور إلى نصابها...
ومَن غيرُ رمضان يمتلك مقوِّمات الثورة الناجحة التي تنعكس آثارها على الفرد والمجتمع: تألقاً في الروح، ورُقياً في الأخلاق، واستقامة في السلوك، وشعوراً تكافلياً رائعاً، ووحدةً وتعاوناً ووئاماً وانسجاماً بين أفراد المجتمع في لوحة فريدة بِريشة رمضان تؤطِّرها ليلة فيها السلام يرفرف فوق جموع العابدين...
فكيف تنتفض الروح وتثور القيم في رمضان؟
كما الثورات قد حرّكت المستنقعات الراكدة في البلاد العربية، فكذلك يفعل رمضان في الروح: ينزل عليها كالماء العذب الزُّلال فتنتفض من ركودها، وتجدد الاتصال بمن به تستعيد بريقها ولياقتها وأُنسها... تماماً كالآلة التي صَدِئت من الإهمال، فإذا ما أُعيد تشغيلها استعادت عافيتها ومعها دورها اللائق بها، وكما الأرض الجافّة العطشى الهامدة التي تهتز وتربو وتنبت النبات الحسن عندما يلامس الغيث صفحة وجودها... (وَتَرَى الأرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاء اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ).
أما كيف؟ ففي مفردات رمضان: مِن كَفٍّ عن الحاجات الأساسية المباحة: "تَرَك شهوته لأجلي"، ومن حجز النفس عن المذمومات وتعميق الفضائل في حسها: "فإنْ سابّه أحد أو شتمه فليقل إني صائم"، ومن عبادة ممتدة في الليل والنهار مصحوبة بثمراتها: (لعلكم تتقون) مشفوعة ببشارته سبحانه لعباده: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ)، "من صام رمضان... من قام رمضان... إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه"... في كل ذلك مقوِّمات الانتفاضة الحقيقية للروح على أهواء النفس والشيطان وقيود المجتمع... وكل ذلك مشروط بحضور القلب وتسليم الفكر وإشراق الروح... (فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ).
أجل إنها انتفاضة للروح ضد عام كامل من الإهمال تراجعت فيه مكانتها لتتقدم حاجات الجسد وأهواء النفس عليها بمراحل...
إنها انتفاضة في وجه كل من ينظِّر للفكر المادي الذي يعتبر الحديث عن الروح من سذاجات العقل.
إنها انتفاضة تسعى لاستعادة مكانة الإنسان الحقيقية في عالم الروح لتقول للماديين: مهما شوَّهتم الفطرة وطمستموها بأغلفة من بهارج الحياة... فسرعان ما تنتفض لتستعيد رونقها بمجرد أن تلامسها كلمة الله مصحوبة بعزيمة إنسانية صادقة... ذلك لأن مقوّم استمرارية الروح قائم فيها وهو قابليتها الدائمة لاستعادة دورها ولممارسة مهمتها في الارتقاء بالإنسان بمجرد أن يرفدها بأنواع العبادات الخالصة...
وفي رمضان تثور القيم التي جُعلت في آخر سلم الأولويات... تثور على واقعٍ فقَدَ معه الإنسانُ معالم إنسانيته، فلا رحمة ولا عدل ولا مساواة ولا خير إلا في مواضع رحمة الله... هنا في رمضان تثور القيم فتبرز معاني التكافل الاجتماعي، حيث نرى قلوب الأثرياء وقد رقّت فرَحِمَت الفقراء والمساكين، وتؤكد معاني الوحدة ذاتها في المساجد وفي الخدمات والأعمال الاجتماعية التي تنشط في هذا الشهر، وتتألق معاني الخير والبذل والعطاء... وكلها صادرة عن نفس شفّافة توّاقة لتعديل ما انحرف من مسارها طيلة العام، فإذا بها كريمة سمحة تُنفق عن رضا دون نكد أو ضيق.
وبعد، فإن على مَن ثارت قِيَمه وانتفضتْ روحه مهمة عظيمة تتمثل في مدى قابليته للاحتفاظ بمكتسبات هذه الثورة وتلك الانتفاضة لتنعكس على نمط سلوكه طيلة العام، وهذا دونه جهود فردية وجماعية معها وعليها (يدُ الله)؛ تتمثل على الصعيد الفردي في المداومة على ذكر الله بمختلف صوره: "أحب العمل إلى الله أَدوَمُه وإن قَل" رواه مسلم، وعلى الصعيد الجماعي تتجلى في توفير المحاضن التربوية واللقاءات الإيمانية التي تُبقي سراج الروح منيراً، ومؤشر القيم في تصاعد مستمر، وصدق الله حيث قال: (قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خيرٌ مما يجمعون).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن