مفارقات.. بين تحرير الأسرى والأسير
عندنا جيش من الأسرى الفلسطينيين وراءهم مليار ونصف من أمة هامدة تركوهم عدد سنين، حيث قضى بعضهم فوق الثلاثين عامًا في سجون الاحتلال، وأمَّتهم لم تستشعر المسؤولية عنهم أجمعين، رغم آيات القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم، منها ما رواه البخاري بسنده أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فكُُّوا العاني)، قال الإمام مالك: "لو أُسر مسلم واحد فيجب على المسلمين جميعًا فداءَ أسيرهم ولو استغرق ذلك جميع أموالهم"، ولدى الفلسطينيين أسير واحد يدعى "شاليط" وراءه بضعة ملايين من الصهاينة واليهود يطالبون بتحريره من اللحظة الأولى لأسره حتى لحظة تحريره الآن، وبقي الأسرى الفلسطينيون على مائدة المجتمع الدولي كالأيتام على مأدبة اللئام، دون أن يخرجهم عرفات أو عباس أو دحلان أو فياض، أو أي زعيم عربي، أو حاكم مسلم، أو المجتمع الدولي الذي تخلّى عن أدنى قدر من الإنسانية ليأسى للأطفال الأسرى الذين يزيدون عن المائتين، والأسيرات بالعشرات في سجون الاحتلال، وتم إهمالهم سنين عديدة .
على حين ظلت قضية "شاليط" في فوهة القضايا التي تطرحها أمريكا بكل ثقلها، وأوربا بكل وزنها، بل روسيا واليابان والصين، ولم يبق زعيم في العالم إلا ومارس الضغط على الفلسطينيين من أجل أسير واحد؛ تقربًا وتزلفًا وتوسلاً إلى الصهاينة، فالرفات الصهيوني لا يعادله ثمن، وأحياء فلسطين لا قيمة لهم في عالم السياسة والخساسة والمِحَن، وكان لابد من حزم، وتغيير المسار، وتعديل الكفة، وتحويل الأزمة، ووضع البصمة، وإشاعة البسمة .
فكانت إرادة الله أن توجد حركة المقاومة الإسلامية "حماس" التي أرَّقت الصهاينة ومن وراءهم من الدول الكبرى، وعملاء العرب، وأخساء العجم، بضربات في العمق الصهيوني في عمليات مشهود لها بالجرأة والشجاعة والبسالة والقوة والحكمة بدءًا من الحجر وانتهاء بحصد أرواح البشر الذين قتلوا الرجال والنساء، وسفكوا الدماء، وهتكوا الأعراض، واغتصبوا الأراض، واقتلعوا أشجار الزيتون، ومنعوا عن أهل فلسطين شربة الماء، ولقمة الغذاء، وعلبة الدواء، وحاصروا قطاع غزة بأكمله، وأحرقوا المساجد، وداسوا بأرجلهم على المصاحف ودهسوا الأطفال بسياراتهم، وأقاموا المستوطنات على أملاك غيرهم، وهوَّدوا القدس، وحفروا 39 نفقًا تحت المسجد الأقصى، وغيَّروا مائتي ألف اسم عربي في القدس إلى أسماء يهودية، وتحدَوْا المجتمع الدولي والإنساني بالرصاص المصبوب، واستعمال الأسلحة المحرمة والمُجرَّمة .
وكل هذا لم يلقَ من القادة العرب الأقزام إلا مبادرات الاستسلام، وتوسل الأمن والأمان، ممن قال عنهم ربنا في القرآن: (لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَىٰ لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ* كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) (المائدة: 78-79)، وقال تعالى: (لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ) (المائدة:63)، كل هذا لم يشفع لرجال المقاومة أن يكون من حقهم قتال المحتلين، وأسر الجنود الباغين، في عُرف المجتمع الدولي اللعين .
وعندما أراد الله أن يؤسَر هذا الجندي "شاليط"، وارتكب الكيان الصهيوني حماقة نادرة بغزو غزة لاستنقاذ "شاليط" والقضاء على "حماس" ووقف الصواريخ البدائية؛ ففشلت عسكريًا، وفشلت في المفاوضات مرارًا لتحريره، وفشلت أجهزتها الأمنية حتى في معرفة مكان "شاليط" طوال هذه السنوات الخمس .
ولما رأت حليفها الأكبر "حسني مبارك" يُخلع ويوضع السجن لمحاكمته، وعميلها عمر سليمان قد أُقصي من الميدان، وخسرت حِلفها مع تركيا، وتأجَّج جانبها الشرقي في سوريا التي لم يُطلق نظامها الديكتاتوري رصاصةً واحدة على الصهاينة منذ احتلال الجولان في 67.
وعندما وجد الصهاينة من أمريكا ضعفًا في المساندة المفتوحة لهم بسبب أزماتها الكبيرة في الداخل، لم يجد "بنيامين نتنياهو" وحكومته - لعنهم الله - إلا اتخاذ القرار الأصعب في حياته كلها كما عبر عن ذلك، ووافق على شروط حركة المقاومة الإسلامية "حماس" وأصبح ما كان مرفوضًا بالأمس مقبولاً اليوم، فوافقوا على تحرير ألف وسبع وعشرين مقابل شخص واحد هو "شاليط"، وكيف لا؟!! وقد وافقوا من قبل على تحرير 20 أسيرة مقابل 4 دقائق لشريط فيديو يثبت أن "شاليط" لا يزال على قيد الحياة.
ولله درُّ "حماس" حيث أفاق الناس على الحقيقة التي قالها الشاعر أبو تمام:
السيف أصدق أنباء من الكتب في حدِّه الحد بين الجد واللعب
فيا أقزام القادة العرب كفى لعبًا وهوانًا بالجري وراء المفاوضات، والتحِقوا بركب الجِد من الرجال في الجهاد ومقاومة الصهاينة الأنذال، مع تمام اليقين في النصر والتمكين من الله الرزَّاق ذي القوة المتين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن