وماذا عن الجرحى والمعتقَلين؟
في نهاية كل يوم تنشر صفحات الثورة قائمة بالشهداء، نقرؤها فنتألم ونتحسر ساعةً وندعو لهم بالرحمة، ثم يأتي يوم آخر فننسى شهداء الأمس وننشغل بإحصاء شهداء اليوم الجديد.
ولكن ماذا عن الآخَرين؟ الشهداءُ تركوا دنيا الكرب والمعاناة ومضوا إلى رحمة الله، حيث لا ألمَ ولا تعبَ ولا جوع ولا برد ولا حزن ولا مرض، ليس هؤلاء أهلاً للرثاء بل للتهنئة بحسن العاقبة، الباقون وراءهم هم الأَولى بالرثاء. فلا تفكروا بالشهداء واتركوهم لرحمة الله، فكروا بالآخرين: المصابين والمعتقلين.
فكّروا بالجرحى: كم يعانون وكم يتوجعون. إن أحدنا لَيعاني أشدّ المعاناة لو أنه أصيب بجرح كبير فعالجه أمهرُ الأطباء في أفضل المستشفيات، وهو محاط بالأجهزة والأدوية وأطقم التمريض وتتوفر له كل أدوات العناية وأسباب الشفاء. كيف يكون حال الواحد منا لو أنه أصيب الإصابة ذاتها أو أشد منها في الميدان، حيث لا مستشفيات ولا أطباء، ولا عناية إلا بقدْر ما تسمح به الإمكانات القليلة المتواضعة التي لا يجدون غيرها، وربما اضطُروا إلى إجراء العمليات بلا تخدير والاكتفاء بالقليل من العلاج؟
يوم قصف العدو مظاهرةَ الرستن في جمعة تسليح الجيش الحر (2/3/2012) شاهدنا جثثاً مشطورة وأجساماً بلا رؤوس وأشلاء ومِزَق أجساد، كانت مناظر مروّعة لا يعزّينا فيها سوى أن أصحابها استُشهدوا لساعتهم بغير عذاب. لكن هل كل من أصيب في ذلك القصف مات؟ ألا تعلمون أن الموتى يكونون دائماً أقل من المصابين الذين يبقون أحياء، يكابدون الجراح والآلام؟ ذاك فقد رأسه أو انشطر جسمه فمات، عليه رحمة الله، فماذا عن الذي فقد يده أو رجله أو عينه، أو الذي اخترقت الشظايا جسده فأتلفت الأحشاء؟ من سيعالج أولئك المصابين؟ وكيف سيُعالَجون وما في سوريا اليومَ مكانٌ آمِن للعلاج، حيث تحولت المستشفيات إلى معتقلات وصار الجرحى هدفاً للقتل والتعذيب؟
وفكِّروا بالأسرى والمعتقَلين: إنهم يُقاسون العذاب الشديد في كل ساعة من ساعات الليل ومن ساعات النهار، فتمر الساعة عليهم -من شدّة ما يلقون- كألف ساعة، وهم أيضاً مُعرَّضون لما يتعرض له سائر الناس؛ ربما مرض أحدهم فلا يصل إلى الطبيب، ربما أصابه الصداع فلا يجد الدواء المسكّن لألم الصداع، وهو يُحرَم الطعام ويُحرَم المنام مبالغةً في التعذيب. حتى أهون ما يحتاج إليه يكون وبالاً عليه، فإذا ما أراد قضاء الحاجة حُرم منها أو أُخّر عنها أو عُذّب في الطريق إليها. وهو -بعد ذلك كلّه- مشغول البال بمن ترك وراءه من أبوين وزوجة وأولاد، يفكّر فيهم فيألم لألمهم بفقده ويغلبه الشوق إليهم والحنين، ولا سيما من كان له أطفال صغار. أما قرأتم قصة ذلك الرجل الذي لبث أيامَ الاعتقال وهو يذكر طفلته الصغيرة التي اشتهت “الففافل” (الفلافل)، فذهب ليشتري لها ما اشتهت فاعتُقل في الطريق، فما يزال يفكر فيها وفي كيس الفلافل الذي سيحمله لها أولَ ما يخرج، ولا يعلم: أيخرج أم يموت في حُبوس الظالمين؟
* * *
كلما قابلَت الفضائياتُ متحدّثاً باسم الثورة بدأ بهذه الجملة التي صارت لازمة مكرورة لا بد منها: “الرحمة لشهدائنا والشفاء لجرحانا”؛ أحس أنه يقولها كما يردد الطفل في المدرسة الابتدائية أنشودةً حفظها ليلقيها في حفل، لا يتفاعل معها ضميره ولا يتجاوب بها قلبه. أما أنا فإني ما قرأتُ عن مُصاب أو شاهدتُ جريحاً في مقطع مصوّر إلا تخيلتُ معاناته وألمه مما يَلقى، فإني حديث عهد بعملية جراحية، هي الوحيدة التي أُجريت لي في حياتي وكانت قبل بداية الثورة بأمد قصير. لم تكن في مشفى ميداني تحت القصف ولا عانى الجرّاح الذي أجراها من شُحّ في الأدوات ومواد الطبابة، ومكثتُ بعدها تحت الرقابة والرعاية يومين يأتيني إلى سريري طعامي وشرابي ودوائي، ومع ذلك عانيتُ من أوجاع شِداد ما زلت أذكرها فيكاد تذكّرها يُشعرني بوجعها. فماذا يصنع جرحى الثورة وكيف يُعالَجون؟ كم يُكابدون وكم يتألمون؟ اللهم إني أسألك أن تَسَعهم برحمتك التي وسعت كل شيء، وأن تُبدلهم بالألم راحةً وبالمرض عافية، وأن ترفع بالامتحان درجاتهم في جنّات الخلود.
أما المعتقلون فأمر آخر. إني ما شاهدت في المقاطع المصورة حادثة اعتقال إلا تخيلت بقيّتها، وكم ارتجف قلبي بالرحمة للمعتقلين وكم منحتهم من دعائي في النهار والأسحار. أنا لم أكن ضيفاً في باستيلات الطغاة في أي يوم بفضل الله، وله الحمد، ولكني ما تركت في حياتي كتاباً مما يسمى “أدب السجون” إلا قرأته، من كتابات ضحايا طاغية مصر السابق عبد الناصر إلى كل حرف كتبه ضحيةٌ من ضحايا نظام الاحتلال الأسدي في سوريا، ومن ثم فإنني أتخيل حياة الأسرى في السجون وكأنني أعيش فيها معهم، أياماً طويلة مترعة بالضّنْك والعذاب. اللهم إني أسألك أن تَسَعهم برحمتك التي وسعت كل شيء، وأن تُبدلهم بالعذاب نعيماً وبالأسر حرية، وأن ترفع بالامتحان درجاتهم في جنّات الخلود.
* * *
ليس نشر هذه الحقائق والصور لإثارة مشاعركم وأحزانكم، فماذا يستفيد إخوانكم من أطنان من الأحزان؟
يجب أن نفكر بطريقة عملية وأن نتصرف بإيجابية؛ آنَ الأوان لتغيير طريقتنا التقليدية في التفاعل والتعامل مع المشكلات: حزن ودموع ودعاء. الحزن لا يُطعم الجياع والدموع لا تُؤوي المشردين، أما الدعاء فمطلوب بالتأكيد، وهو العمل المجاني الذي يعمله الجميع، ولكنه ليس بديلاً عن غيره من الأعمال. النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أنفقوا وهاجروا وقاتلوا وقُتلوا، ولو كان النصر يأتي بالدعاء دون العمل لكان أَولى الخَلق به هم الصحابة والأنبياء.
عندما نسمع في آخر اليوم أن حصيلة الشهداء مئة فمعنى ذلك أن الأمة -بمجموعها- صارت مكلّفة بكفالة مئة أسرة ذهب مُعيلوها إلى رحمة الله وتركوا وراءهم الزوجات والأولاد، كفالةً تمتد ما عاشت الزوجة وما بقي الأطفال صغاراً عاجزين عن الكسب والتحصيل. وعندما نسمع في آخر اليوم أن حصيلة الشهداء مئة فمعنى ذلك أن الذين أصابتهم الجراحات نصف ألف، لأن القاعدة العامة أن الجرحى والمصابين هم خمسة أمثال الشهداء. معنى ذلك أن الأمة -بمجموعها- صارت مكلفة بعلاج نصف ألف جريح وبكفالة أسرهم حتى يَبرؤوا ويصبحوا قادرين على العمل من جديد. وماذا عن المعتقلين، وهم مئات كل يوم؟ من سيكفل أسرهم في غيابهم حتى يعودوا إليها؟ من سيرعى النساء والأطفال؟ من أين سيأكلون وأين سيقيمون وكيف سيعيشون؟
* * *
إن التخلي عن أُسر الشهداء والمعتقلين هو عين الخيانة والجحود، فإن حالت بينكم -يا أيها المسلمون- وبين أن تشاركوا في الجهاد بأنفسكم حدودٌ وقيود، فهل حالت دون علاج الجرحى والمصابين وكفالة الأرامل والأيتام وأُسر المعتقلين والشهداء؟
لقد قدّم المسلمون الخيّرون الكثيرَ وما يزالون يقدّمون، ولكن الذين استجابوا وقدّموا هم الأقلّون من بين ألف مليون ونصف ألف مليون مسلم، بل أقل الأقلّين. وبعدما بلغ المصابُ هذا المبلغ لم يعد كافياً ما يقدّمه أولئك الخيّرون المتطوعون من أعطيات متقطعات، فإن هذه الكارثة العامة لا يصلح لها إلا عمل عام، هذه الكارثة الدائمة لا يصلح لها إلا عمل دائم.
إن البلد من البلاد يضربه زلزال أو يجتاحه إعصار لَيستدرّ عطف الدنيا وتتقاطر عليه وفود الإغاثة وبعثات الإنقاذ من نواحي الأرض، أفلا يرون أن ما نزل بسوريا من بلاء يَهون في جنبه الزلزال والإعصار؟ دعوا عنكم دول العالم فما لنا بها من حاجة، ولكن أين أنتم يا مسلمون؟ ما علمتُ قبل اليوم أن الأخ يستطيع أن يسمع صراخ أخيه واستغاثاته التي تقطّع نياط القلوب ثم ينام قرير العين فارغ الفؤاد. لا يقولنّ قائل: إني لا أعلم، فما أبقت الفضائيات لجاهل أي عذر، اللهمّ إلا الذين شغلتهم مباريات الكرة ومسابقات الطرب والغناء.
تابعوا أخبار سوريا يوماً واحداً أو العددَ من الأيام تجدوا أخبارها سواء: في كل يوم قافلة من الشهداء طولها مئة شهيد وقافلة من الأيامى واليتامى والمصابين والمعتقلين لن تبصروا لها من آخر. ما عادت لسماء سوريا زرقة السماء، اختفت وراء سحب الدخان السوداء، ما عادت لأرض سوريا سمرة الأرض، اختفت تحت أنهار الدماء الحمراء، وأنتم بعدُ لا تعلمون؟ أم أنكم تعلمون ولا تبالون؟
يا أيها المسلم حيثما كنت، يا أيها الأخ في الإنسانية والدين: إذا لم تكن أنت المغيث -بعد الله- فمَن المغيث؟
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن