صمود غزة وتيه المشهد الفلسطيني
يمكن الحديث عن أسباب كثيرة دفعت الثنائي باراك- نتنياهو لشن العدوان الأخير على قطاع غزة، ومن بينها، بل ربما في مقدمتها الأسباب الانتخابية، لكن السبب الحقيقي، أو لعله المبرر الذي لا بد من الحديث عنه هو ذلك المتمثل في البعد الإستراتيجي لما يجري ممثلا في تثبيت وضع القطاع فيما يشبه دولة جوار للكيان الصهيوني تقبل بمعادلة التهدئة الدائمة مقابل العيش بأمن وسلام، حتى لو استمر الحصار من البحر والجو، إلى جانب أسباب أخرى سترد لاحقا.
مطلوب من حماس أن تقبل بهذه المعادلة بشكل كامل، مع العمل الجدي والحثيث على وقف أية تحرشات بالعدو، أكان من خلال الصواريخ أم من خلال العمليات العسكرية التي تناوش الجنود الإسرائيليين في الشريط الحدودي حول القطاع، أي أن تكون حارسة لأمن الصهاينة، الأمر الذي لا يمكنها القبول به بحال.
وإذا كانت الصواريخ مكلفة بالنسبة للقطاع، ويمكن لحماس أن تتفاهم مع القوى الأخرى على وقف إطلاقها دون تفاهم مشترك، فإن العمليات الأخرى، وهي محدودة إلى حد كبير نظرا لصعوبتها، لا يمكن أن تُعامل بنفس الطريقة، لاسيما أن جزءا من أرض القطاع أيضا لا يزال محتلا فيما يعرف بالشريط الحدودي.
العدوان الإسرائيلي هو محاولة لترميم الهزيمة التي مني بها العدو في حرب "الرصاص المصبوب"، أو حرب الفرقان 2008، 2009، وذلك بمحاولة تثبيت هدنة من طرف واحد، بمعنى أن يكون بوسع الاحتلال أن يضرب من يزعجه من داخل القطاع دون ردود فلسطينية عليه، مع حرص على منعه ابتداءً، في ذات الوقت الذي تتوقف فيه حماس عن تطوير قدراتها العسكرية.
وحين أدرك الصهاينة أن حماس لم تقبل بهذه المعادلة، في ذات الوقت الذي واصلت فيه العمل على تحسين قدراتها العسكرية تحسبا لمواجهة مقبلة، فقد قرروا شن العدوان متذرعين بالهجوم على الجيب العسكري الذي أصيب فيه ثلاثة جنود.
من أهداف العدوان أيضا اختبار القدرات العسكرية لحماس، لاسيما الصاروخية، وكذلك حال الأسلحة المضادة للطيران. أما الأهم فيتمثل في تدمير ما يمكن تدميره من تلك القدرات، إلى جانب التخلص من قائد استثنائي (أحمد الجعبري) توفرت الفرصة لاغتياله من خلال معلومات استخبارية لا يعرف كيف حصلوا عليها، والأرجح أنها نتاج تراخي الرجل قليلا في احتياطاته الأمنية إثر عودته من الحج عبر استقبال المهنئين في مكان عام.
حماس القطاع في مأزق، فهي رغم قدراتها الجيدة إلا أن من الصعب عليها إطلاق مواجهة مع العدو من طرفها، ولو فعلت لصرخ من يتهمونها بترك المقاومة قائلين إنها تغامر بالدم الفلسطيني في حرب عبثية، فيما يعرف الجميع أنه لا مجال للمقارنة بين قدرات حماس العسكرية وقدرات العدو بأي حال من الأحوال.
والحال أن فرصة الفلسطينيين في استخدام المقاومة من أجل تحقيق إنجاز حقيقي يفرض على العدو الانسحاب من الأراضي الفلسطينية عام 67 دون قيد أو شرط تبدو متوفرة في ظل التطورات العربية والدولية التي تخدم القضية الفلسطينية، لاسيما تحولات الربيع العربي، لكن فرصة كهذه لا تتأتى من خلال حرب منفردة يخوضها قطاع غزة مع عدو مدجج بالسلاح حتى الأسنان، والسبب أن القطاع شبه محرر، ولا وجود للجيش الإسرائيلي فيه، وهو محاصر بالكامل، ولا يمكن الاشتباك مع العدو إلا إذا قرر هو البدء في الاشتباك والتوغل في المناطق السكنية في مساحة محدودة تقل عن 330 كيلو مترا مربعا (مساحة القطاع كاملة 360 كيلو مترا مربعا، وهو يساوي واحد ونصف في المائة من مساحة فلسطين التاريخية).
لا حل في ضوء ذلك من أجل معركة لا يمكن الانتصار فيها سوى بإطلاق مقاومة شاملة في كل الأرض الفلسطينية (سلمية وعسكرية)، ونقل ما يمكن نقله من القدرات العسكرية في القطاع إلى مناطق الضفة الغربية، وهي مقاومة ستحظى بدعم شعبي عربي هائل (سيفرض الشارع على الأنظمة موقفا آخر)، وكذلك من الشتات الفلسطيني، وتصل بالاشتباك حدوده القصوى التي تفرض على العدو الانسحاب من كامل الأراضي المحتلة عام 67 دون قيد أو شرط كمقدمة لتفكيك المشروع الصهيوني في مرحلة لاحقة عندما تتوفر الظروف الموضوعية لذلك.
قد يبدو ذلك حلما ووهما عند المهزومين، لكنه ليس كذلك بأي حال إذا رفع شعار الانسحاب دون قيد أو شرط، وليس كما كان الحال في انتفاضة الأقصى؛ مراوحة بين الانتفاضة والتفاوض.
هذا الخيار لا يبدو مقبولا بحال من طرف القيادة التي تمسك بزمام القرار الفلسطيني ممثلة في محمود عباس والزمرة التي تحيط به، وهؤلاء يريدون من حماس أن تضم القطاع إلى الضفة في لعبة المفاوضات العبثية (بعد استعادتهم للقرار بالتحالف مع القوى الأخرى من خلال الانتخابات) وتأكيد وضع السلطة التي تنسق أمنيا مع الاحتلال.
كيف يمكن لحماس أن تقبل بخيار من هذا النوع، وكيف لها أن تضع القضية برمتها في مربع عبثي لا طائل من ورائه (ماذا لو فازت حماس من جديد؟!)، في وقت يعرف الجميع حدود ما يعرضه نتنياهو على الفلسطينيين.
الحل في ضوء ذلك هو مبادرة حماس والجهاد ومن يساندهما إلى استثمار الربيع العربي وقلب الطاولة في وجه عباس وخياراته، والإعلان عن أن مسار الانتخابات والوحدة في ظل السلطة تحت الاحتلال واستمرار المفاوضات لا يمكن أن يكون مقبولا، وأنها تقبل بإدارة بالتوافق لقطاع غزة بوصفه منطقة شبه محررة، مع إدارة توافقية أخرى (مدنية) في الضفة لا صلة لها بالسياسة، ومن ثم إطلاق مقاومة شاملة في كل الأرض الفلسطينية.
سيقول البعض إن عباس لن يقبل، وهذا متوقع بالطبع، لكن حماس بذلك تكون قد نسفت الانطباع السائد، والذي يركز عليه الطرف الآخر ممثلا في أنها رضيت بإمارة غزة ولا تريد غيرها. وهنا على وجه التحديد سيكون بالإمكان تحريض الشارع الفلسطيني في الضفة الغربية على أخذ زمام المبادرة وإطلاق انتفاضة تفرض على حركة فتح والقوى الأخرى الانخراط فيها، لاسيما أن آفاق المفاوضات ستبقى مسدودة في ظل اليمين الصهيوني، فيما تتواصل عمليات الاستيطان والتهويد على قدم وساق، بما في ذلك للقدس والمقدسات، مع قدر لا بأس به من الإذلال للشعب الفلسطيني على مختلف المستويات.
العدوان المتواصل حاليا، وتصدي حماس له بقوة واقتدار يثيران الإعجاب يمنحها فرصة طرح مشروع المقاومة المشار إليه على الشعب الفلسطيني في الداخل والشتات، معطوفا على توافق على اختيار قيادة موحدة للشعب الفلسطيني بالانتخاب في الداخل والخارج، تكون هي القيادة الفعلية للشعب، ولها وحدها صلاحية تحديد خياراته السياسية.
هي فرصة تاريخية لطرح هذا المشروع بعد فرض تهدئة على العدو تعكس هزيمته أمام إرادة المقاومة، وذلك بدل استمرار حالة التيه التي تعيشها القضية منذ رحيل ياسر عرفات واستيلاء عباس وزمرته على حركة فتح ومنظمة والتحرير وقيادة السلطة والسير بها في مشروع تفاوضي يدرك الجميع بؤسه وعبثيته.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة