حديث طائفي صريح (3 من 4)
تحذير وتحذير
كتبت هذه المقالات الأربع ليقرأها كل واحد من أهلنا الكرام في سوريا (بل إني لأتمنى أن يقرأها كل مسلم في الدنيا). ولكني أعلم أن أي جماعة من الناس لا تخلو من وسط وطرفين، فطائفة تمشي في عُرْض الطريق واثنتان عن يمين وشمال، وهؤلاء منهم من يقترب من الوسط فينجو، ومنهم من يبتعد إلى أقصى الطرف فيَشقى ويُشقي. وكل فضيلة في الدنيا تتوسط طرفين ذميمين، فالشجاعة وسط بين الجبن والتهور والعدالة وسط بين التخاذل والانتقام، وكما قال شاعرنا القديم: "كلا طرفَي قَصْد الأمور ذميمُ".
من أجل هؤلاء وهؤلاء، الذين تركوا وسط الطريق واختاروا طرفَيه، كتبت هذه الحلقة والتي بعدها. هذه للذين بالغوا في اللطف واختاروا التفريط، والأخرى للذين بالغوا في العنف واختاروا الإفراط. على أني أعترف بأنني أفهم من أين جاء الآخَرون (الذين لم يوجدوا في سوريا قبل الثورة)، فلو أني سكنت في حي من الأحياء أو قرية من القرى، ثم جاء القَتَلة من حي علوي مجاور أو قرية علوية قريبة فنحروا أولادي أو حرقوهم وهم أحياء، فربما تضرّمتُ وطار صوابي فناديت بنحر أولادهم وتهديم قراهم فوق رؤوسهم (وأرجو أني لن أفعل). أفهم من أين يأتي أهل الإفراط، ولكن لا أفهم أبداً من أين يأتي أهل التفريط الذين يَدْعون إلى النسيان والغفران، ويريدون أن نعود كما كنا قبل الثورة لندخل في دُوّامة العذاب والآلام من جديد!
كتبت المقالتين من أجل هذين الفريقين؛ في هذه الأولى تحذيران للفريق الأول، وفي الأخرى مناشدتان للفريق الثاني، على أن مناشدة لا بد منها عبرت بين التحذيرين الأوّلين.
* * *
التحذير الأول معجَّل بين يدي الانتصار: احذروا الدعوة إلى التسامح والعفو عن المجرمين، فإنها خيانة لدماء الشهداء وتضحيات الضحايا وعذابات المعذّبين.
سوف يأتي الذئاب غداً بلباس النعاج يتمسحون ويطلبون الصفح. ولسوف يذرف قومٌ منّا الدموع ثم يحدثونكم عن غاندي ومانديلا والتسامح والغفران. أولئك أنبياء "المصالحة الوطنية"، وإنهم لمن سلالة سَجاح ومسيلمة، أنبياء كذبة مَن صدّقهم أوردوه النار، نار الدنيا المحرقة الهوجاء! سيقولون إن أولئك المجرمين كانوا مُرغَمين ولم يشاركوا في الجرم مختارين، سيقولون إنهم ثروة من التجارب والخبرات التي لا يليق بسوريا أن تخسرها. إياكم أن تصغوا إلى هذا الهراء، لا يخدعنّكم الفراء ولكن انظروا إلى ما تحت الفراء، فإن الذئاب تبقى ذئاباً ولو تجلببت بجلابيب النعاج والخراف، ولا ينام مع العقارب في فراش واحد إلا غافل أو مجنون.
حالما يسقط النظام ستسمعون كلاماً من أعجب الكلام، سوف يظهر قوم يدعونكم إلى المصالحة ويتحدثون عن طيّ صفحة وفتح صفحة والنظر إلى الأمام. سوف يحدث ذلك لا محالة، فإن هؤلاء الناس موجودون دائماً. لن أحاكم نيّاتهم ولا تهمّني دوافعهم، أخيرٌ هي أم شر، لكنهم موجودون وسوف يقولون ما يقولون.
لا تُصغوا إلى ما يقولون، لا تصغوا إلى دعاة التصالح والتسامح والنسيان والغفران. كيف يجوز أن نتسامح مع من قتل أطفالنا واغتصب نساءنا وعذب شبابنا ودمّر بلادنا وأكل أعمارنا؟ إن هذا لا يكون. لا ترضوا إلا بالقصاص، القصاص الكامل من أصغر مجرم إلى كبير المجرمين، القصاص العادل الذي يقرره الشرع ويحكم به القضاء، بلا زيادة ولا نقصان.
ولكني أناشدكم أن لا يسعى أي فرد إلى الاقتصاص بيده، فإن هذا الباب إذا فُتح حوّل المجتمع إلى غابة، فيأكل المذنبُ البريءَ وتضيع الحقوق وتسيل الدماء بالحق وبالباطل. إنها ستكون محاكم وتكون محاكمات، ففوّضوا إليها القصاص واطلبوا منها العدالة. وإني لأرجو أن لا يبقى مجرمٌ بلا عقاب، ولكن لا يَحزُنْكم لو أن يد العدالة لم تصل إليهم جميعاً، فإنه لا بد أن ينجو كثيرون لأن عدالة الدنيا قاصرة مهما أخلصت ومهما بالغت في الاستقصاء. لا تحزنوا إن رأيتم ذلك، فإن مَن نجا من محكمة الأرض تلقفته محكمة السماء، هنالك الجزاء الحق في دار البقاء.
* * *
التحذير الثاني مؤجَّل لما بعد الانتصار: احذروا أن تتسلط عليكم الطائفة العلوية بعد اليوم. إنه أمر يسعى إليه أعداء الأمة، وإنهم ما زالوا يصرّون على طمأنة العلويين حتى ظننّا أنهم سيورّثونهم سوريا من جديد! سوف يبذل الأميركيون وحلفاؤهم غاية جهدهم لزرع العلويين هنا وهناك، في أعلى المواقع وأرفع المناصب وأعظمها تأثيراً في مستقبل البلاد. فماذا أنتم فاعلون؟
لا مجال للمجاملة ولا محل للتنازل في هذا الأمر المصيري الخطير. قولوا بالصوت العالي وبأوضح الكلمات: لن يشارك العلويون في الإدارة والحكم في سوريا المحررة، لن يكون أحد منهم في مراكز التأثير والقرار والمناصب العليا في الدولة والجيش وأجهزة الأمن، لن نسلم العلويين مفاتيح البلاد بعد الآن. من حقهم أن يعيشوا بيننا آمنين وأن يعملوا ويتمتعوا بخيرات البلاد، ومن حقهم أن لا نمسّ بسوء مَن لم يرتكب منهم جريمةً ولم يشارك في جرائم النظام الزائل، أما المشاركة في صنع حاضر سوريا ومستقبلها فلا وألف لا.
سيقولون إن "المواطَنة" تفرض استواء الجميع في الحقوق، وإن العلويين جزء من المجتمع السوري ولهم الحق في المشاركة في حكم سوريا كغيرهم من الطوائف والأعراق. قولوا: لا، ليس العلويون كغيرهم، ليسوا جزءاً من الوطن، بل هم محتلّون أو أعوان على الاحتلال. منذ تسعين سنة وهم يهدمون ويخربون؛ تعاونوا أولاً مع الفرنسيين ودعموا عدوانهم على سوريا وشاركوا في أجهزة الاحتلال المدنية والأمنية والعسكرية، ثم تحولوا هم أنفسهم إلى قوة احتلال بغيضة، احتلت سوريا وجَرّعت أهلها الكرام مُرّ العذاب في نصف قرن كئيب من عمر الزمان.
سيقولون: إنكم تظلمون العلويين، فإنهم ليسوا كلهم مع النظام وإن فيهم وطنيين وشرفاء. قولوا لهم: صحيح، لم نجهل أن في العلويين وطنيين وشرفاء، وفيهم أيضاً صامتون محايدون، ولكنّ المحايدين قليل والوطنيين الشرفاء أقل من القليل، أما الأكثرون فقد اصطفّوا مع النظام واختاروا القتال معه حتى النفَس الأخير. ثم قولوا لهم: إن "القانون الخاص" هو الفيصل والحَكَم عندما تكون العلاقة بين أفراد، أما العلاقات بين الجماعات فلا مناص من الاحتكام فيها إلى "القانون العام"، لأن الجماعات تُحمَل أكثرياتُها على أقلياتها ولأن الحكم على الجماعة أسبق وأقوى من الحكم على أي فرد من الأفراد، والجماعات لا يمكن تفتيت مصائرها إلى أجزاء، بل يعمّ الحكم ويستوي أفرادها كافّة في المصير.
سيتحدثون عن المصالحة الوطنية وعن فتح صفحة جديدة وطيّ الماضي الكئيب. طيّ الماضي؟ متى؟ الآن والجراح ما زالت تنزف؟ الآن ومئة ألف أيّم تذرف الدمع كل ليلة على الزوج الفقيد، ونصف مليون يتيم ينادون الأب فلا يجيب النداءَ الأبُ الشهيد؟ لا، لا مصالحةَ ولا مشاركة ولكن إقصاء واستبعاد، على الأقل حتى يجف الدم ويذهب جيل ويأتي جيل، ثم يذهب جيل ويأتي جيل، ثم يذهب جيل ويأتي جيل.
* * *
وإذا رموكم بالعنصرية والطائفية والظلم والتعسف فقولوا: ليس ما نطلبه غريباً عن منطق الدين والقانون والتاريخ، فإن لإقصاء العلويين عن المشاركة في حكم سوريا مبررات أخلاقية وقانونية وسوابق في التاريخ.
عقب الهجوم الياباني الشهير على الأسطول الأميركي في ميناء اللؤلؤ (بيرل هاربر) أقامت السلطات الأميركية معسكرات اعتقال ساقت إليها مئة وعشرين ألف أميركي لم يرتكبوا أي جرم سوى أنهم كانوا ينحدرون من أصول يابانية، حيث اعتُبر كل أميركي من أصل ياباني خطراً محتمَلاً على الأمن القومي! (ونحن نقول إن العلويين صاروا بأفعالهم وتاريخهم خطراً على الأمن القومي السوري). سيقت أُسَر كاملة إلى معسكرات محاطة بأسلاك شائكة وحراسات مشددة، فمُنحت كل منها غرفة واحدة لتعيش فيها مهما كان عدد أفرادها، ولم يُفَكّ أسرهم حتى نهاية الحرب في عام 1945.
وبعد احتلال العراق في عام 2003 حل الأميركيون حزب البعث، ثم أصدر مندوبهم السامي (الحاكم المدني الأميركي في العراق)، بول بريمر، أصدر قراراً بتشكيل "لجنة اجتثاث البعث" التي أخذت على عاتقها تصفية مؤسسات الدولة الجديدة من عناصره، وبعد ذلك بسنتين أصبحت اللجنة مؤسسة دستورية وسُمّيت "الهيئة الوطنية لاجتثاث البعث"، وما زالت إلى اليوم تطارد بقايا النظام البعثي القديم وتمنع كل من كانت له علاقة بحزب البعث من المشاركة في الحياة السياسية في العراق.
هذا ما صنعه الذين يسمون أنفسهم آباء الديمقراطية وحرّاسها (الذين يطالبون اليوم بتمثيل واسع للطائفة العلوية في سوريا الحرة)، والسابقة القانونية يؤسَّس عليها كما يقول الحقوقيون. أما أخلاقياً ودينياً فإن القرآن الكريم يقدم لنا قانوناً إلهياً مهمّاً من قوانين الوجود، حيث نجد أن الجماعة تشترك بالمصير إذا انفرد بالذنب أكثر أفرادها وسكت الباقون؛ اقرؤوا قوله تبارك وتعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قرية أَمَرْنا مترفيها ففسقوا فيها، فحق عليها القول فدمّرناها تدميراً}، وقوله: {واتقوا فتنة لا تُصيبَنّ الذين ظلموا منكم خاصّة}.
قال القرطبي: قال علماؤنا: فالفتنة إذا عُملت هلك الكل، وذلك عند انتشار المنكر وعدم التغيير. فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {ولا تزر وازرة وزر أخرى} وهذا يوجب ألاّ يؤخَذ أحد بذنب أحد وإنما تتعلق العقوبة بصاحب الذنب، فالجواب أن الناس إذا تظاهروا بالمنكر فمن الفرض على كل من رآه أن يغيره، فإذا سكت عليه فكلهم عاص؛ هذا بفعله وهذا برضاه، وقد جعل الله في حكمه وحكمته الراضي بمنزلة العامل؛ فانتظما في العقوبة (الجامع لأحكام القرآن 7/392).
ألا ترون أن الوصف السابق ينطبق اليوم على الطائفة العلوية (بمجموعها وليس بأفرادها)؟ ومنه الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أنزل الله بقوم عذاباً أصاب العذابُ من كان فيهم ثم بُعثوا على أعمالهم"، وحديث الترمذي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "يغزو جيشٌ الكعبةَ، فإذا كانوا ببيداء من الأرض يُخسف بأولهم وآخرهم". قالت: قلت: يا رسول الله، كيف يخسف بأولهم وآخرهم وفيهم أسواقهم ومن ليس منهم؟ قال: "يخسف بأولهم وآخرهم ويبعثون على نياتهم".
* * *
أيها العلويون: لا مكان لكم بين الأحرار، لا تحلُموا بمناصب وقيادات في سوريا الحرة. لقد اعتمدتم من قبل على ضعف ذاكرتنا وطيبة قلبنا، فقد استبدلنا بالسذاجة حذراً ورقعنا ذاكرتنا فلا ثقوب فيها منذ اليوم. لن ننسى، لا يجوز أن ننسى. كل من أعان المجرم فهو شريك في الجريمة، والشركاء في الهدم لا يمكن أن يكونوا شركاء في البناء.
لمتابعة السلسلة الكاملة:
حديث طائفي صريح (1 من 4) - الطائفية بين التنوير والتثوير
حديث طائفي صريح (2 من 4) - أُخُوّة العقيدة وشراكة الوطن
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن