باحث في مؤسسة القدس الدولية، متخصص في التاريخ الإسلامي، كاتب في عدد من المجلات والمواقع الالكترونية، عضو رابطة أدباء الشام، ومسؤول لجنة الأقصى وفلسطين في جمعية الاتحاد الإسلامي.
أطياف ملوك الطوائف...
لم يعد خبر سقوط عاصمةٍ عربية يحمل الوقع ذاته ولا يشكل في نفوسنا تلك المفاجأة العصية على التصديق فهو وللأسف خبر اعتاد المتلقي العربي على سماعه ومعاينته والعيش في تفاصيله، وتحول الذهول الأول لشيء من البلاهة المركبة أمام من خطط ونفّذ وحصد جنيه ونحن في سباتنا عاكفين...
كثيرة هي عواصمنا التي ذاقت نير الاحتلال، ففي المئوية الأخيرة تكرر المشهد كثيرا فمرة "اللنبي" يدخل مزهواً أغلى حواضر أمتنا وعروس مدائننا القدس وتارةً "ديغول" يطأ بعنجهية شهداء ميسلون ويروع مدينة الياسمين دمشق ليوصل الرسالة بأننا عدنا يا "صلاح الدين"، وثالثة ورابعة... حتى مللنا العد أو نسيناه وبين طيات السنوات مدن وحرائق وقتلى حتى اصطبغت صحفنا سابقا ونشراتنا اليوم بلون الدم والهزيمة، لا يهم كل ذلك ربما... فالمجد والسؤدد للسلطان صاحب الرفعة والدولة، والناس البسطاء تلك الغالبية المسحوقة الغارقة في الفقر والتهميش خارج الزمن والحياة أموات في أجساد بالية وأطياف أرواح ممزقة...
ولكن الخبر الرئيس الذي تناقلته وسائل الإعلام في الأسبوع المنصرم أثار عندي جملة من التساؤلات والصور ودفعني لعقد مقارنة حملت في طياتها حقيقة بأن محطات التاريخ تتكرر وإن بصور وأسماء جديدة ...
فسقوط عاصمة اليمن السعيد كان متوقعاً منذ مدة ولن أدخل في تحليل ما حدث فللسياسة أهلها وذويها، ولكنه حدث يذكّر من اطّلع بشكل يسير على تاريخ الأندلس بحقبة ملوك الطوائف، وما رافقها من تشرذم وضعف وفرقة ثم انهيار وسقوط... وكأننا نعيش في عصر غروب الأندلس حيث كانوا يتباكون كل فترة على مدينة (دولة) عربية تسقط واليوم كل فترة نتباكى على عاصمة عربية تسقط...
ليست المقارنات منصفةً دائما بل هي ظالمة أحيانا ومجحفة لأحد طرفيها ونحن اليوم إذ نقارن واقعنا بالأندلس لا يمكننا أن نتغاضى بأنها - على ضعفها - كانت منارة للعلم والفقه والإبداع والحضارة حتى سماها بعض المستشرقين "معلمة أوروبا" ليس كحالنا اليوم ونحن نقتات على فتات الغرب ونسير في آخر الركب برؤوس منتكسة...
وأكبر صور التشابه بأن دولنا اليوم هي خيالات ليس إلا، وأطياف أكبر بكثير من حقيقتها وليست الشعارات التي ترفع من السيادة والوطنية والقوة والتبجيل إلا تغطية لسوءة قد ظهرت فاضحة لا يسترها كما يقول المثل حتى ورق التين، دول الطوائف كذلك امتلك حكامها ألقابا عظيمة في اللغة والمعنى فارغة في واقع الأمر والمضمون حتى قال فيهم الشاعر:
مِمَّا يُزَهِّدُني في أَرْضِ أَنْدَلُس * ٍسَماعُ مُقْتَدِرٍ فيها وَمُعْتَضِدِ
أَلْقابُ مَمْلَكَةٍ في غَيْرِ مَوْضِعِها * كالهر يَحْكي انْتِفاخاً صَوْلَةَ الأَسَدِ
ولعمري قد فتح الله على بصيرة هذا الشاعر حتى تكلم بلسان زمانه وزماننا فذلك الملك المعظم وذاك السلطان المبجل وبين الفخامة والمعالي تضيع حقيقة أن هؤلاء ليسوا إلا دمى تحركها الدول الكبرى في خدمة مشاريعهم وألاعيبهم ولا يملكون من السلطة إلا بقدر ما يمنحه لهم أسيادهم أو ما يمتلكون من أدوات القتل والتعذيب والمهجية لتصب على شعوب شغلها الشاغل قوت يومها فقط...
ومن النتيجة السابقة ننطلق في وجه التشابه الثاني، عندما كانت الخلافات تدب بين ملوك الطوائف ويستأسد هذا الملك على ذاك فلا يجدون مناصراً على أبناء جلدتهم إلا الصليبيين أعداءهم الذي يتحينون الفرص لاستلاب مدينة أو حصن أو شبر من أرض أندلس، وهنا تُرسم التحالفات لا على العقيدة والدين بل على المصالح الآنية ليس إلا، وهو مرض فتاك يضج به واقعنا وآخر صفحاته ترك نظام الإجرام والقمع في سوريا ثلاث سنين وهو يقتل ويفتك ويبيد الحرث والنسل ثم تذرع الغرب بهمجيته المتأنسة ببعض التجاوزات لشن حملة ضخمة بتمويل ملوك الطوائف وبحور النفط ومشاركة بعضهم في الولوغ في دماء الأبرياء من المسلمين...
ومن طامات واقعنا المعاصر هو تساقط مدننا واحدة تلو أخرى أمام مشروع واضح المعالم والنهج يعمل ليل نهار ليصل لمراده كما كان الصليبيون في الأندلس يسعون بشكل حثيث لإسقاط كل مدينة عبر عزلها عن محيطها والانفراد بها، وهو ما يحدث اليوم فقد استشرت الوطنية والإثنية والقبلية وكل يغني على ليلاه والمغرضون يتربصون بنا الدوائر وأصحاب المشاريع السامية يزج بهم في السجون لأنهم هم فقط يشكلون رأس الحربة في مواجهة ملوك الطوائف ومشاريع أسيادهم المشبوهة، فنشاهد خسائرنا بقلوب متألمة وأيد خاوية إلا من دعاء مكتوم يتحشرج في حلوق الخائفين على الأمة...
هي مواجعنا تتكرر بأثواب مختلفة ولكن المعضلة واحدة غياب الفكر الواحد والتمحور حول الانتماء الأغلى الذي يربط المسلمين ويشد أزرهم، فأضحينا في زمن التفرق والشرذمة ولا مرابطون ينسلّون كالبحر يحررون الأرض من خبث المحتل والقلوب من أدران الخنوع، ولا يوسف بن تاشفين يعيد سيرة الرعيل الأول في العدل والحكم، ولا ابن عباد ينتفض فيه نخوة العربي فيرفض ذل العيش في كنف النصارى ويفجرها فيما حفظ التاريخ عنه "إن رعي جمال ابن تاشفين أحب إليّ من رعي خنازير الفونسو"...
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة