أخي .. ما حملك على ما صنعت؟
أكثرنا يعلم قصة حاطب بن أبي بلتعة – رضي الله عنه – حين أرسل خطاباً لقريش يخبرهم بعزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسير إليهم، فلما أطلع الله نبيه على الأمر أتى بحاطب وبدأه بالسؤال: (يا حاطبُ، ما حملك على ما صنعتَ)؟
ولكن الذي قد لا يعلمه الكثير منا أن هذه العبارة لم تكن جملة عابرة من النبي صلى الله عليه وسلم، بل كانت منهجاً مطّرداً: أن يُسأل صاحب الشأن لِـمَ فعل ذلك؟ قبل أن يحكم عليه أو يتخذ بشأنه أمرا.
وهذا بعض ما وقفت عليه من سيرته صلى الله عليه وسلم:
- عن عوف بن مالك - رضي الله عنه- قال: خرجت في غزوة مؤتة فرافقني مددي من أهل اليمن... فلقينا جموع الروم وفيهم رجل على فرس له، أشقر عليه سرج مذهّب وسلاح مذهّب... فقعد له المددي خلف صخرة فمر به الرومي فعرقب فرسه فخرّ وعلاه فقتله وحاز فرسه وسلاحه، فبعث إليه خالد بن الوليد فأخذ من السلب. قال عوف فأتيته فقلت: يا خالد أما علمت أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قضى بالسلب للقاتل؟ قال: بلى ولكني استكثرته، قلت لتردنه عليه أو لأعرفنكها عند رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم. فأبى أن يرد عليه، قال عوف فاجتمعنا عند رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم فقصصت عليه قصة المددي وما فعل خالد، فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم: يا خالد ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رسول اللهِ لقد استكثرته فقال رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم يا خالد رد عليه ما أخذت منه...
- ومرَّ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ برجلٍ يبيعُ طعامًا قد خلط جيدًا بقبيحٍ، فقال النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ: ما حملك على ما صنعتَ؟ قال: أردتُ أن ينفقَ، فقال له النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلمَ ميِّزْ كلَّ واحدٍ منهما على حِدَتِه، فإنه ليس في ديننا غشٌّ.
- وفي قصة اليهودية التي أهدت للنبي صلى الله عليه وسلم شاة مسمومة، فلما علم بذلك أرسل إليها، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قالت: أردت أن أعلم إن كنت نبياً لم تضرك، وإن كنت ملكاً أرحتُ الناس منك، فأمر بها فقُتلت.
- وعن جابر: كانت قريش تُدعى الحُمس، وكانوا يدخلون الأبواب في الإحرام، وكانت الأنصار وسائر العرب لا يدخلون من باب في الإحرام، فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم في بستان إذ خرج من بابه، وخرج معه قطبة بن عامر الأنصاري، فقالوا: يا رسول الله إن قطبة بن عامر رجل فاجر وإنه خرج معك من الباب، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: رأيتك فعلته ففعلت كما فعلت.
- وفي قصة أبي بكر –رضي الله عنه– مع اليهودي "فنحاص" لما قال: لو كان الله عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم! فغضب أبو بكر فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً وقال: والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدوا الله،... فذهب فنحاص إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا محمد، أبصر ما صنع بي صاحبك! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: يا رسول الله؛ إن عدو الله قد قال قولاً عظيماً، زعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء! فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه..
- وفي حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - قال: ...أعطاني النبي صلى الله عليه وسلم نعليه وقال اذهب بنعليَّ هاتينِ فمن لقيتَ من وراءِ هذا الحائطَ يشهدُ أن لا إلهَ إلَّا اللَّهُ مستيقِنًا بها قلبُهُ فبشِّرْهُ بالجنَّة، فكانَ أوَّلَ من لقي عمرُ فحدثه بذلك، فضربَه عمرُ وقالَ ارجِع يا أبا هريرةَ، فرجع إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وهو يبكي. فقالَ لي رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: ما لكَ يا أبا هريرةَ؟ قلتُ لقيتُ عمرَ فأخبرتُهُ بالَّذي بعثتني بهِ فضربَ بينَ ثدييَّ ضربةً خررتُ لِإستي قالَ ارجع. فقالَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: يا عمرُ ما حملكَ على ما فعلتَ؟...
وهناك موقف النبي صلى الله عليه وسلم من الرجل الذي ظاهر من امرأته ثم أتاها قبل أن يُكَفِّر، وقصة زنباع مع غلامه وجاريته، وغيرها، في كل ذلك لا يعجل حتى يسأل: ما حملك على ما صنعت؟.
وقد تعلّم منه أصحابه رضوان الله عليهم هذا المنهج في التثبت من صاحب الشأن، وتأسّوا به صلوات ربي وسلامه عليه.
ومما وقفت عليه من ذلك أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر رضي الله عنهما، فكأنه وجده مشغولاً فرجع، فقال عمر: ألم أسمع صوت عبد الله بن قيس؟ ائذنوا له. فدُعي له ، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فقال: إنا كنا نؤمر بهذا.
وحدّث عوف بن مالك قال: بينا أسير في الشام على بعير ورجل من أهل الذمة يسوق بامرأة معه على حمار، فلما خلا دحش الحمار فصرعت المرأة فتحللها، فألحقت بعيري فضربت رأسه بالسوط، فاستعدى عليّ عمر واستجرتُ بمعاذ بن جبل، فبعث عمر إليّ فأتيته فقال: ما حملك على ما صنعت؟ فحدثته حديثي، فأقبل عليه عمر فقال أنتم قوم لكم عهد بقي لكم ما وفيتم لنا فإذا بدلتم فلا عهد لكم علينا، ثم أمر به فصُلِب.
بل هذا موسى عليه السلام وهو يرى صنيعة قومه الشنيعة بعبادة العجل، لا يعجل على السامري حتى يسأله: ما حملكَ على ما صنعتَ؟ قال: قَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ، وفطنتُ لها وعميتْ عليكم، فقذفتها وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي.
بل هل هناك أعظم دلالة من ربنا عز وجل وهو أعلم بالخلق من أنفسهم، لا يعاجلهم بالعقاب حتى يسألهم؟!
كان رجل يسرف على نفسه، فلما حضره الموت قال لبنيه: إذ أنا متّ فأحرقوني، ثم اطحنوني، ثم ذرّوني في الريح، فوالله لئن قدر عليّ ربي ليعذبني عذاباً ما عذبه أحد، فلما مات فُعل به ذلك، فأمر الله الأرض فقال: اجمعي ما فيك منه، ففعلَت، فإذا هو قائم، فقال: ما حملك على ما صنعت؟ قال: يا رب خشيَتُك، فغفر له. وقال غيره: مخافَتُك يا رب.
أين نحن من هذا المنهج العظيم والهدي القويم؟
يسمع الأخ عن أخيه قدحاً فيفعل كل شيئ إلا أن يسأله ما حملك على ما صنعت؟ يُصدر عليه الأحكام، ويرتب على فعله اللوازم، وتدب إليهما القطيعة والبغضاء، وينزغ بينهما الشيطان، ولو اتبع هدي النبي صلى الله عليه وسلم، لربما كفاه كل هذا: فإما أن يجد الأمر على غير ما يظن، وإما أن يجد عذراً يعذر به أخاه، وإما أن يجد اعتذاراً يسكّن ما بينهما.
ونظن أحيانا أن الأمر ظاهر، ولا يحتاج إلى تفسير، وكأننا نقول بلسان الحال: وما عساه أن يقول إذا سألته، والشواهد والقرائن ضده ساطعة كالشمس؟
سبحان الله! والله تسمع أحياناً من الأعذار والتوضيحات ما لا يخطر لك ببال.
فإذا كان هذا هو منهج النبي مطلقاً، فكيف بالأزمنة والأحوال التي تكثر فيها الشائعات، ويقلّ التثبت، ولا يصلك الخبر إلا بالسند الطويل لصعوبة التواصل، كما هو في أجواء الحروب والكوارث والأزمات.
بل ربما كان الواجب في زماننا هذا أن نسأل قبل ذلك: هل فعلت؟
شنّع أحد الإخوة مرة على أخيه "زيد" بأنه فعل كذا وكذا، وأراد أن يرفع الأمر إلى القضاء، ثم تبين أن "زيد" الذي فعل كذا وكذا هو "زيد" آخر!
التثبت من صاحب الشأن بلا واسطة هو المنهج النبوي، فلنلتزمه يا أتباع رسول الله، وإلى أن نفعل ذلك لا يسعنا إذا سمعنا عن إخواننا شيئاً لا نرضاه لهم إلا أن نتذكر قول الله تعالى:
"لولا إذ سمعتموه ظنّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا".
فنقول "ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم".
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة