أم السعد.. امرأة عاشت لخدمة كتاب الله عز وجل
كم من أعلام تُنِعش سِيَرُهم قلوبَ السائرين وتُوقظ أخبارُهم هِممَ المتثاقلين.. ومن هؤلاء: شيخة مشايخ مصر المعاصرين «أم السعد»، وهي التي أفنت عمرها في تعليم القرآن وعلوم القراءات، ونشر أسانيد كتاب الله في شتى البلدان، مع أنها كانت كبيرة في السن كفيفة البصر.. ولكنها أثبتت أنها كبيرة بعملها وبصيرة بقلبها؛ فلقد صنعت بهمتها ما تثاقلت عنه همم المبصرين، فلنا فيها خير قدوة ...
يقول عنها الدكتور محمد إسماعيل المقدّم: «الوحيدة التي تُعرف على مستوى العالم كله من النساء بتخصصها وإتقانها للقراءات العشر، وظلت طوال نصف قرن بل حوالي 60 عاماً تمنح إجازاتها في القراءات العشر للنساء والرجال، كباراً وصغاراً، وقد تجاوزت الثمانين عاماً».
الميلاد والنشأة
ولدت «أم السعد» في 11 تموز 1925، ونشأت ابنةً لأسرة فقيرة انحدرت من قرية البندارية، إحدى قرى مدينة المنوفية - شمال القاهرة.. داهم المرض عينيها ولم تتجاوز العام الأول من عمرها، ولم يكن لدى أهلها القدرة - وربما الوعي- لعلاجها لدى الأطباء، فاتجهوا للعلاج الشعبي بالكحل والزيوت التي كانت سبباً في فقدان بصرها بالكلية، وكعادة أهل الريف مع العميان نذرها أهلها لخدمة القرآن الكريم.
في خدمة القرآن
أتمت «أم السعد» حفظ القرآن الكريم وهي في الخامسة عشرة من عمرها في مدرسة (حسن صبح) بالإسكندرية. ذهبت بعدها إلى الشيخة «نفيسة بنت أبي العلا» شيخة أهل زمانها كما توصف، لتطلب منها تعلم القراءات العشر، فاشترطت عليها شرطاً عجيباً وهو: ألاّ تتزوج أبداً، فقد كانت ترفض بشدة تعليم البنات؛ لأنهن يتزوجن وينشغلن فيهملن القرآن الكريم، فوافقت أم السعد. ومما شجعها على ذلك أن «نفيسة» نفسها لم تتزوج رغم كثرة من طلبوها للزواج من الأكابر، وماتت وهي بكر في الثمانين، انقطاعاً للقرآن الكريم! ولقد حصلت «أم السعد» من شيختها «نفيسة» على إجازات في القراءات العشر وهي في الثالثة والعشرين من عمرها.
تمكّنها من حفظ القرآن
تقول: ستون عاماً من حفظ القرآن وقراءته ومراجعته جعلتني لا أنسى منه شيئاً.. فأنا أتذكّر كل آية وأعرف سورتها وجزءها وما تتشابه فيه مع غيرها، وكيفية قراءتها بكل القراءات.. أشعر أنني أحفظ القرآن كاسمي تماماً، لا أتخيل أن أنسى منه حرفاً أو أخطئ فيه.. فأنا لا أعرف أي شيء آخر غير القرآن والقراءات.. لم أدرس علماً أو أسمع درساً أو أحفظ شيئاً غير القرآن الكريم ومتونه في علوم القراءات والتجويد.. وغير ذلك لا أعرف شيئًا آخر».
تعليمها للقرآن
انتهجت «أم السعد» نهج شيختها فبدأت بتعليم القرآن الكريم في منطقتها - الإسكندرية - ومن ثَم بلدها مصر، حتى ذاع صيتها في معظم بلدان العالم، وكان بيتها لا يُغلق بابه من كثرة الوفود التي تتردد عليها لحفظ القرآن ونيل إجازات القراءات؛ والذين كانوا من جميع الأعمار والتخصصات والمستويات الاجتماعية والعلمية. أما برنامجها فكان: دروس النساء والبنات من الثامنة صباحاً حتى الثانية ظهراً، ثم تبدأ دروس الرجال حتى الثامنة مساء، لا يقطعها سوى أداء الصلوات وتناول الوجبات الخفيفة لتتمكن الشيخة من الاستمرار، وهي تخصص لكل طالب وقتاً لا يتجاوز ساعة في اليوم. ومن أشهر تلامذتها: الشيخ محمد إسماعيل المقدم مؤلف كتاب «عودة الحجاب»، والقارئ الطبيب «أحمد نُعَينع» الذي قرأ عليها وأخذ عنها... وغيرهما كثير.
زواجها
تزوجت «أم السعد» من الشيخ «محمد فريد نعمان» الذي كان من أشهر القرّاء في إذاعة الإسكندرية، وهو صاحب أول إجازة تمنحها «أم السعد»، وتقول عن قصة زواجها: «لم أستطع الوفاء بالوعد الذي قطعتُه لشيختي «نفيسة» بعدم الزواج.. كان يقرأ عليّ القرآن بالقراءات.. ارتحت له.. كان مثلي ضريراً وحَفظ القرآن الكريم في سنّ مبكرة.. درّسته خمس سنوات كاملة، وحين أكمل القراءات العشر وأخذ إجازاتها طلب يدي للزواج فقبلت». واستمر زواجهما أربعين سنة كاملة لم تنجب فيها أولاداً.. وتعلّق قائلة: «الحمد لله.. أشعر بأن الله تعالى يختار لي الخير دائماً..».
وفاتها
توفيت «أم السعد» في فجر يوم السادس عشر من رمضان من العام 1427 للهجرة الموافق 9 / 10 / 2006م عن عمر ناهَزَ واحداً وثمانين عاماً، وشُيعت جنازتها من مسجد ابن خلدون بمنطقة بحري بالإسكندرية. وقـد صلى عليها خَلْق كثير من مشايخ وعلماء مصر وطلاّبها ومحبيها.. رحمها الله تعالى..
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة