ما بعد الحرية في حوار مع المحرَّرة أحلام التميمي
أحلام التميمي اعتقلت عام 2001 وحكمت عليها المحكمة العسكرية الصهيونية بالسجن المؤبّد16 مرة، قيدها ذاك الذي أسر الجسد فشل في أسر الروح التي حلّقت في فضاءات الإيمان والتوكل على الله.. فكانت الثمرة أن تحولت الأحلام إلى حقائق، بعد أن منّ الله عليها وعلى بعض الأسيرات والأسرى والمعتقلين بالفرج في صفقة «وفاء الأحرار»؛ فتنفست أحلام التميمي رغم أنف السجّان الغاصب رائحة الحرية.. حرية ممزوجة بطعم العزة والكرامة ..
منبر الداعيات التقت بأحلام وأجرت معها حواراً سلطت فيه الضوء على نوعية التربية التي تلقتها.. وكيفية تأقلمها مع حياتها الجديدة.. والحالة روحية التي كانت عليها في السجن.. وغيرها من الأسئلة ..
فإلى الحوار..
1. «منبر الداعيات»: ما نوعية التربية التي تلقيتها وقادتك إلى قناعاتك حيال العمل الجهادي؟
أنا من عائلة فلسطينية من مواليد الأردن حيث عشنا لا نكترث للوضع الفلسطيني إلا بالإجمال. الذي حصل هو أن ابن عمتي نزار (20 عاماً) - الذي يعيش في فلسطين - انخرط في العمل الجهادي وقتل مستوطناً في عملية جهادية فاعتُقِل وتعرّض للتعذيب الجسدي والنفسي. ويوم المحاكمة دخلت والدته (39 عاماً) إلى القاعة لترى ابنها البكر مكبّلاً بين أيدي اليهود بعد مرور شهر على عدم رؤيتها له، فبدأت تحتسب «حسبنا الله ونعم الوكيل»، ثم حصل شِجارٌ ضُربت والدة نزار على إثره بأعقاب السلاح، فارتطم رأسها بطرف الدرج الحديدي مما أدى إلى حصول نزيف داخلي فاستُشهِدَتْ فوراً على مرأى من ابنها نزار (زوجي الآن). هذا الحدث لم يمرّ عليّ مرور الكرام.
إذ دخلتُ حينئذٍ في صراع فكري قويّ، انزويت في غرفتي وبدأت أفكر: أنا عمري 14 سنة وكل شيء متوفر لديّ، أخرج للمطاعم والنزهات وأعيش الحياة... أما نزار الذي يكبرني فقط بـ 6 سنوات، لماذا لم يلتفت للحياة؟ لماذا اختار هذا الطريق الوعر؟
وبعد سنتين حسمتُ أمري واخترتُ طريق مستقبلي: يجب أن أُسهم في الانتفاضة في فلسطين... وهنا بدأت العقبات، عقبات عائلية ورسميّة وأمنية... وبدأت اهتماماتي الجديدة في هذه الحياة تنعكس على سلوكي داخل المدرسة، فصرت أضع اللَّفحة الفلسطينية دائماً، الأمر الذي كان ممنوعاً في المدرسة، كما صرت أكتب مقالات سياسية وأوزعها، فصارت المديرة ترسل وراء أمي لتشكو لها توجهاتي السياسية غير المقبولة في المجتمع الأردني عموماً وفي المدرسة خصوصاً.
في البيت صرتُ أُكثر من الجلوس مع أخوالي - أهالي الشهداء عندما يزوروننا من فلسطين، ولا أجلس مع أترابي.
ثم يسّر الله تعالى وفتح لي طريقَ الذهاب إلى فلسطين، وما حصل أنني لم أحصّل المعدّل المطلوب عند إنهاء المرحلة الثانوية. فقال والدي: لم تحصلي على قبول في الأردن، إذاً اذهبي لمتابعة دراستك في فلسطين! وانتقلت إلى فلسطين بأهون سبب بتاريخ 17/11/1998، وبدأت دراستي الجامعية.
2. «منبر الداعيات»: بعد مرور سنة تقريباً على تحرّرك: كيف تأقلمت مع حياتك الجديدة؟
بداية، وأنا في داخل السجن، كنت أتكلم مع كل أخت جديدة يتم اعتقالها وأسألها عن آخر المستجدات في الخارج من صغيرها إلى كبيرها، إضافة إلى ذلك، فإن وجود المذياع والتلفاز في السجن - ولو بقنوات محدودة أغلبها علمانيةً – أعانني على متابعة التطورات في الخارج، حتى الأجهزة مثل iphone و ipad... ولكن بعدما خرجتُ شعرت بغربة من نواحٍ عدة؛ فمثلاً بعض الناس واجهني بعِتاب لأنني لم أرسل لهم رسائل إلكترونية (e-mails) وكأنني كنت موجودة بينهم دون تقدير ظروفي.
شوارع مدينتي التي تربيتُ فيها وطرقاتها لم أعد أعرفها. أما عائلياً، فيُحزنني أن أرى أن مفهوم الجهاد غير موجود رغم اعتقالي والظروف المحيطة بعائلتي.
أفظع ما في الأمر هو محاولات علمنة الجهاد، فعامّة الناس لا يعرفون المفهوم الإسلامي للجهاد إلا مَن رَحِمَ ربي.
3. «منبر الداعيات»: الحالة الروحية التي كنتِ عليها في السجن، هل مازلت تحملينها بالدرجة نفسها؟
السجن مجتمع مصَغّر بجميع شرائحه ومشاكله، يعني متعب جداً، وذلك الجو الروحاني الذي تتكلمين عنه غير موجود نهاراً، لا سيما بوجود التلفزيون معظم ساعات النهار والليل من مسلسل إلى مسلسل مما يعيق مهمة الدعوة إلى الله بين الأخوات السجينات، وكانت هناك شريحة من الأخوات دون 18 سنة، فأخذت على عاتقي تربيتهن. ومصلحة السجون تتعمد بث القنوات الهابطة ليغسلوا الأدمغة وينسفوا المفهوم الجهادي، وهنا تكمن خطورة فقدان الذات وتضييع الإنجاز، فالسجن مرحلة اختبار علينا قطعها بالثبات على الحق.
خلال العشر سنوات التي أمضيتها في السجن (من عمر 21 إلى 31) كنت خلال النهار مشغولة جداً، أما الليل فكان لتأمين غذائي الروحي، ومنه آخذ شحنة، لا أستطيع مواصلة عمل النهار، منذ أن تُطفَأ الأنوار الساعة 12 وحتى الصباح. ولَكَم كنت أشعر بروحانية عالية مع حرف الهاء في لفظ الجلالة (الله)، إذ كنت أجلس أي جلسة مريحة لي وأبدأ بأخذ نفس عميق وألفظ عبارة «يا الله»، أكررها وأكرّرها حتى أبكي وأبكي إلى أن أرتاح، ثم أبتسم للفجر حين يَلوح، فأصلّي ثم أستلقي فأشعر وكأنني عائمة على البحر وأشعر بمعيّة الله. وهكذا أيضاً كنت قادرة على مقابلة ضوضاء النهار بهدوء ورزانةٍ وتفكير متّزن سليم. واليوم مازالت هذه الجلسات موجودة - والحمد لله - وأشعر بضرورتها بمجرّد انتهاء النهار.
4. «منبر الداعيات»: هذا الترحيب والاحتفاء في الوطن العربي.. الأناشيد، القصائد، المقابلات.. كل ذلك ماذا يعني لك؟ وهل تخشين على نفسك فتنة إقبال الدنيا؟
بصراحة فوجئت بهذا الاهتمام لأننا في السجن كنا نظن أننا صرنا نسياً مَنسيّا، وكنّا نعزّي أنفسنا بأننا نعمل لله تعالى ونترك أثراً يُجبر العالم تذكّرنا وإن نسِيَنا؛ وذلك أننا - أسرى حركة حماس - في داخل السجن تواصلنا مع الخارج، وأنشأنا موقعاً إلكترونياً لنا، وأجرينا انتخابات داخلية وأسّسنا لِجاناً إلخ... فكنتُ مسؤولة عن قطاع المعزولين والأسيرات والأشبال والمرضى، أحد الإخوة مسؤول اللجنة الثقافية وآخَر مسؤول اللجنة الإعلامية، وكان يتم التواصل بيننا في مختلف السجون عبر محامينا. الحمد لله ثبتنا داخل السجن ولم نسمح لذواتنا بالذوبان، لدرجة أننا أصدرنا مقالات، وكم سُرِرنا عندما صارت تَرِدُنا ردود أفعال، عندها فقط عرفنا أن العالم لم يَنْسَنا، وأننا بتوفيق الله فرضنا عليهم أن يتذكّرونا، مما لعب دوراً إيجابياً فعّالاً في نفسيّاتنا مفاده «أننا حاضرون في أذهان الآخرين».
وعند عودتي إلى الأردن بعد تحرّري فوجئت بالاستقبال الكبير، وتذكّرتُ دعاء أمّي: «الله يستر عليكِ ويحبّبكِ إلى خَلْقه يا أحلام»، فقلت «يا رب استعملني». بهذا الحب الذي استُقبِلتُ به شعرتُ بسروري بالحرية، وشعرت أكثر بالمسؤولية الملقاة على عاتقي. قد ذهبت إلى الجهاد في مرحلة من المراحل، أما الآن فالجهاد يأتي إليّ، والله يخيّرني بالقَبول أو الرفض.
فحين يُطلَب مني الانتقال من بلد إلى آخر - مثلاً - للتكلم عن تجربتي أشعر أنني لا أستطيع الرفض مهما كنت منهكة جسدياً وصحياً ومهما كان الوقت ضيقاً... ينصحونني بوضع مدير ومنسّق وتأسيس مكتب وغيرها، فأرفض وأقول: أنا أنظم أموري بنفسي دون إيجاد هذه الهالة لي.
وفي الوقت نفسه أقسو على نفسي، فإذا دُعيتُ إلى مؤتمر فخم أذهب بعده في زيارة للمخيّمات لأوجد التوازن في نفسي حتى لا أُفتَن. وإذا شعرت أنني فُتِنْتُ في لحظة من اللحظات أعاقب نفسي أو أتصدّق.
5. «منبر الداعيات»: هل من كلمة أخيرة توجّهينها؟
أريد أن أقول إن دخولي السجن قد غيّر حياتي وفتح لي سُبُل الهداية، لا أدري كيف، ولكنه حصل ولذلك أستشعر قول الله تعالى: (والذين جاهدوا فينا لنَهدِيَنَّهم سُبُلَنا وإنّ اللهَ مع المحسنين). وأما سبب تحرّري فهو حبل الدعاء والتواصل مع الله تعالى دائماً.
***
ختاماّ نقدّم شكرنا لأختنا أحلام التميمي على هذا اللقاء الطيّب المؤثر.. سائلين المولى أن يفكّ أسر إخواننا المعتقلين والمسجونين كافة في بقاع الأرض.. (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً).
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة