أمُّ موسى عليهما السلام المرأة العظيمة الواثقة بالله (1 من 2)
تحدث القرآن عن أربعة من «أسرة» موسى عليه السلام، وهم: موسى نفسه، وأخوه هارون عليه السلام، وأمه، وأخته.
ولم يذكر القرآن شيئاً عن أبيه، ولكنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن اسم أبيه «عمران»، وذلك في قوله: «لو كان موسى بن عمران حياً لما جاز له إلا أن يتّبعني».
وقد أبهم القرآن اسم أمه، كما أبهم ذكر تفاصيل حياتها، ولم يَِرِد لها ذكر في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
فَلْنَقفْ مع حديث القرآن عن أم موسى، لنأخذ منه المعاني والدلالات، والدروس والعبر.
وشخصية أم موسى في القرآن شخصية إيمانية، وهي نموذج للمرأة المؤمنة الصابرة، الواثقة بالله، المصدِّقة بوعده، المنفِّذة لأمره، التي كافأها الله على ذلك بالتكريم والثناء.
وقد ورد الحديث عن أم موسى في سورتَيْن: سورة طه، وسورة القصص.
حديث سورة القصص عن أم موسى:
تحدثت سورة القصص عن اضطهاد فرعون لبني إسرائيل وتعذيبهم، وتذبيح أبنائهم، واستحياء نسائهم؛ قال تعالى: (إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعاً يستضعف طائفة منهم، يذبِّح أبناءهم ويَسْتَحيي نساءهم، إنه كان من المفسدين) (القصص: 4).
في هذا الجو «الإرهابي» الذي أشاعه فرعون في بني إسرائيل حملت «الأم» الإسرائيلية المضطهدة بجنينها، وهذا الجنين سيكون عُرضة للذبح عند ولادته إذا كان ذكراً، وقد ذبح فرعون كثيراً من المواليد الذكور، لا يعلم عددهم إلا الله، ولا ذنب لهم إلا أنهم ذكور من بني إسرائيل!
وحدث ما كانت كل حامل إسرائيلية تخشاه في ذلك الوقت، وجاء المولود ذكراً... أراد فرعون أن يقتلَ هذا الطفل الإسرائيلي عند ولادته، وأراد الله أن يُبقيه حياً، وأن يُعِدَّه لإنقاذ بني إسرائيل وإهلاك فرعون وقومه، ولن يكون إلا ما أراده الله، ولذلك رتّب الله الأحداث بحكمته وهو الحكيم الخبير، لتحقيق إرادته وهو الفعّال لما يريد.
وكانت بداية الترتيب الإيحاء إلى المرأة المؤمنة الحامل، وإرشادها إلى كيفية التصرف؛ قال تعالى: (وأوحينا إلى أم موسى أن أَرضعيه فإذا خِفتِ عليه فأَلقيه في اليم، ولا تخافي ولا تحزني، إنا رادّوه إليك وجاعلوه من المرسلين...) (القصص: 7).
وليس الوحي إلى أم موسى نبوة، لأن النبوة خاصة بالرجال، ولم يبعث الله امرأة نبية؛ قال تعالى: (وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى) (يوسف: 19). كان وحي الله إليها بإلهامها إلهاماً فطرياً، وذلك بأن وجّهها في قلبها إلى كيفية التصرف بهذا الجنين عند ولادته، لينجو من الذبح.
(وأوحينا إلى أم موسى أن أَرضعيه): بمجرد أن تلد هذا المولود عليها أن تُرضعَه.
(فإذا خفت عليه فألقيه في اليم): هي ستخاف على الوليد فعلاً، لأن عيون نظام فرعون على الإسرائيليات الحوامل بالمرصاد، وهم جاهزون لخطف المولود من حضن أمه وذبحه، ولماذا لا تخاف هذه المرأة على وليدها؟
ماذا تفعل عندما تخاف على ابنها وتخشى عليه الخطر؟ في العُرف البشري تُقبل عليه، وتُلصقه بصدرها، وتحميه بحضنها، وتفديه بنفسها، هذا ما تفعله الأمهات. ولكن لو فعلت ذلك هل ستنجح في حمايته، حتى لو ألقت نفسها عليه؟ كلا سينتزعونه منها رغم أنفها، ويذبحونه أمام عينيها!
ما هو الحل؟ عليها أن تدع التدبير إلى الحكيم الخبير سبحانه وتعالى، وما عليها إلا أن تنفذ أمر الله بثقة ويقين.. الحل في التقدير الرباني أن تُبعدَه عنها... أن تُلقيه في اليم؛ وهو نهر النيل، الذي كانت تقع عليه عاصمة فرعون، وكانت أم موسى تعيش في العاصمة.
(ولا تخافي ولا تحزني): بعد إلقائه في اليم عليها أن تطمئن على وليدها، لأنه في أمان الله، ولذلك نهاها الله نهيَيْن اثنين: نهاها عن الخوف، ونهاها عن الحزن. نهاها عن الخوف على الوليد، لأنه ليس ذاهباً إلى الخطر، إنما هو ذاهب إلى الأمان، والأمان في أكثر المواقع خطراً... الأمان في قصر فرعون عدوِّه، وفي إمساكه له بيديه! سبحان الله! ونهاها الله عن الحزن على فراقه لأن هذا الفراق قصير، وضروري لحفظه.
(إنا رادوه إليك): أكثرَ الله لها وعده بردِّ وليدها إليها، وذلك لتُزيل ما قد يعتريها من خوف أو حزن.
(وجاعلوه من المرسلين): وعد آخر من الله لهذه المرأة المؤمنة، فهو سبحانه لن يرد لها ابنها فقط، وإنما سيحفظ هذا الوليد حتى يكبر ويكون رجلاً، ثم يجعله رسولاً؛ وهذا الوحي الرباني إلى أم موسى يدل على تكريم الله لهذه المرأة المؤمنة الصابرة، كما يدل على حكمة الله وحُسن تقديره وتدبيره وترتيبه سبحانه.
ونفّذت المرأة الصابرة المؤمنة وحي الله فالتزمت بما فيه من أخبار وأوامر ونواهٍ وبشارات، ووضعت وليدها في التابوت، وألقت التابوت في اليم، وسَيَّرَ الله التابوت والوليد إلى قصر فرعون، ووُضع الوليد بين يدي فرعون، وهو يتحدّاه، وكأنه يقول له: هذا هو الوليد الذي تبحث عنه، أتاك بدون حماية بشرية، وأتحداك أن تقتله! إنك لن تستطيع ذلك!!
يتبع
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة