الشيخ عليّ الطنطاوي - الــعــالِــم الــذي أحـبَّـه الـمـلايـيـن!
كنت أتُوق للُقيْاه منذ أن تفتّحتْ عيناي على الإسلام الحقّ وتعلَّقتُ بالعلم والعلماء، سمعتُ عنه الكثير وجَذَبني بحديثه العَفْوي وثقافته الواسعة وعِزّته بدينه الشامخة، ولباقة مداخله إلى القلوب العامّة والخاصّة عندما عرفت صورته وسمعت كلامه أول مرة سافرت فيها إلى الحجاز لأداء فريضة الحج من خلال التلفزيون السعودي في برنامجه الأسبوعي (نور وهداية).
اعتبرتُه من الطراز الرفيع من الدعاة العلماء أو العلماء الدعاة. وإني أُحبّ من الشيوخ هذا النوع لتفوّقه في الذكاء ومهارته في فنّ الدعوة وتبحُّره في العلم وحُرقته على الدين وسَعَة اطلاعه على واقع المسلمين وجَمْعه بين علم الدنيا وعلم الدين.
وعلى الرغم من أسفاري المتكرّرة بعد ذلك إلى مكة المكرّمة وشدة تَوَقاني للُقْياه إنْ كان أثناء الحج أو العُمرة أو أثناء إقامتي ثلاث سنوات في المملكة لإتمام دراستي الشرعية التي كانت بدايتها في كلية الشريعة بدمشق، إلا أنه لم يُكتب لي ذلك لكثرة مشاغله وصعوبة اللقاء به.
كان ذلك في سنوات الثمانينيّات وعُدْتُ عام 1406 (الموافق له عام 1986) وفي نفسي حَسَرات لعدم ظَفَري بمجالسته، مع أنني سعدت بجلسات مع أخيه العبقري الأديب المؤرِّخ الفقيه الزاهد الفريد في عُلوّ همته وتفرّده في زهده الشيخ محمد سعيد الطنطاوي الأستاذ الجامعي المتخصّص في الكيمياء.
وقرأت للشيخ الطنطاوي في هذه المدة كتابَه ((تعريف عام بدين الإسلام)) الذي أصدرمنه الجُزء الأول فقط – في العقيدة – ضمن مشروعه في إصدار سلسلة كتب تعرِّف الجيل المعاصر البعيد عن الثقافة الشرعية بالإسلام يومَ لم تكن توجد كتب من هذا النوع. أُعجبتُ بهذا الكتاب لأسلوبه السهل مع قوة إقناعه وبراهينه وقُدرته الفائقة على مخاطبة العقل وتحريك العاطفة بلغة العالِم الشرعي وبمنطق الفقيه القاضي وأسلوب الأديب الألمعي.
ولذا لا تستغربوا إذا عرفتم أن هذا الكتاب تُرجم إلى عدة لغات عالمية وطُبع نحواً من ثلاثين طبعة.
ولا أُخفي أنني كنتُ قبل قراءة كتابه ((محمد بن عبد الوهاب)) الذي تُنسب إليه ما يسمّيه الناس (الوهابيّة) شديد الحَيْرة في شأنه: فقد قرأت كتباً أخرى وسمعت بعضاً من شيوخي في ذمّه والنفور منه كما قرأت كتباً أخرى وسمعت آخرين يُغالون في مدحه ولا يقبلون أيَّ نقد له. ولكن لمّا قرأت كتاب الطنطاوي عنه شعرتُ براحة غامرة طفَتْ على عقلي وقلبي فقد وجدتُ فيه العدلَ والإنصاف، فهو في الوقت الذي يعدِّد المآخذ على بعض آرائه وأسلوبه في الدعوة وبعض مواقفه السياسية يَذْكر في المقابل ما حقق من إنجازات وما له من مآثر.
وهكذا كلما قرأت له كتاباً انتقلت إلى آخر وليس سراً ذكرُ ما لزوجتي (أمِّ علاء مطيعة) من أثر على إقبالي على كُتُبه لشَغَفِها بكتاباته القصصية والأديبة والتاريخية.
ثم قدّر الله أن يجمعني به – رحمه الله – عام 1413هـ في منزله في جُدّة بعدما انتقل إليها، وكان لأخي في الله العالِم النابِه البحّاثة المُجِدّ الداعية الشيخ مجد مكّي – الغالي على قلبي وأنيس دربي في طلب العلم والتعرّف على العلماء الذي أشهد ببراعته اللَّبِقة في حُسْن مداخله على الشيوخ – كان له فضلٌ بعد الله في تعريفي بالشيخ واصطحابي إلى منزله بعدما آثر الشيخ رحمه الله العُزلة في منزله لئلا يُفتي بما لا يرضاه الله إبّان غزو صدّام حسين الكويت! فترَكَ المناصب والجاه ليبقى ثابتاً على ما يراه الحق من دينه رحمه الله.
هذه العُزلة خفّفتْ من مشاغله فلازَمَ بيته، ثم توالت السنون عليه وهو في آخر الثمانين ثم دخل في التسعين فأقعده المرض ولكن ظلّ ممتَّعاً بحافظته النادرة وذاكرته الفائقة مع روح النُّكتة ولطف الدعابة إلى آخر أيامه رحمه الله.
وأعود إلى أوّل مرة التقيتُه فقد رأيت فيه ما عرفت عنه من خلال كتبه وما سمعته بعد ذلك من سِبْطه الأخ الشابّ (عمرو حتاحت) عن مواهبه وأموره الخاصة والأُسْرية، ومن أخي الشيخ مجد الذي لازمه واستفاد منه واستمع إلى معارفه وفوائده ونوادر محفوظاته أكثر من أيٍّ من أفراد أسرته. وكم مرة سمعتُ من الشيخ عليّ يُثني عليه أنه استفاد منه أكثر مما أفاده. وهذا من تواضُعه وإنصافه رحمة الله عليه!!
ثم تكرَّرتْ زياراتي له كلما سافرت إلى جُدّة حتى كان آخرها في رمضان (عام 1419هـ) زرتُه مرتين واستفدت منه وحزنت أيضاً لاشتداد وطأة المرض عليه... فقد ثَقُلَ لسانُه وضعُف سمعُه واشتدّ عليه السُّعال ومع ذلك يفرح لوفود الزائرين ويشارك في الحديث يَنْثر الفوائد ويُكثر من الاستشهاد بالشعر ويُخبر عمن يعرف من الشيوخ والدعاة والزعماء والسياسيين مع إيراد تفاصيل الوقائع ولو مضى عليها خمسون سنة أو أكثر.
نُبَذ عن حياته رحمه الله:
وُلد الشيخ علي عام 1327هـ (1919م) ونشأ في أوساط أسرة علمية عريقة فأبوه وجَدّه من العلماء واتصل بالعديد من الشيوخ الكبار في دمشق، وخالُه هو العلاّمة المؤرخ الأستاذ محبّ الدين الخطيب الذي كان يُقيم في مصر وكانت له فيها مجلّتا (الزهراء) و(الفتح) الذائعتا الصيت في العالم الإسلامي. وله ثلاثة إخوة وأصِفهُم أربعتَهم (الإخوة العباقرة).
سافر إلى مصر عام 1928 ودخل دار العلوم في السَّنة التي تخرَّج فيها (الإمام البنّا) وكان هو و(سيّد قطب) في صفّ دراسي واحد رحمهما الله، ثم صار شديدَ الإعجاب به والثناء عليه وعلى كتابه ((في ظلال القرآن)) شأنه شأن عديدٍ من عِلْية العلماء. وفي مصر تعرَّفَ على الطبقة العليا من العلماء وكان له فيها نشاط علمي وأدبي واسع كَتَبَ عنه ورصده الكاتب الأديب الدكتور محمد رجب البيومي في مقالة خاصة في كتابه (النهضة الإسلامية في سِيرَ أعلامها المعاصرين) الذي اكتمل طَبْعه بستة مجلدات: في المجلد الثالث من ص 268 إلى ص 284.
ثم رجع من مصر والتحق بكلية الحقوق في جامعة دمشق وكان رفيقَه فيها الشيخ مصطفى الزرقا. ثم سافر إلى العراق للتدريس عام 1936، ثم إلى بيروت للتدريس في الكلية الشرعية (الأزهر حالياً) عام 1937 أيام المفتي الشيخ محمد توفيق خالد، وكان من تلاميذه آنئذٍ الشيخ حسن خالد.
وكانت له فيها وقائع طرائف كتب عنها مقالتين في ذكرياته – التي نُشرت على مدى 245 حلقة ثم طبعت في 8 مجلدات غير مجلد الفهارس والصور-: الأولى (رقمها 103) بعنوان: في الكلية الشرعية في بيروت، والثانية (رقمها 104) بعنوان: بيروت سنة 1937. وفيهما الكثير من تاريخ بيروت وعلمائها وعمرانها وأوضاعها الاجتماعية والفساد فيها ومناطق لبنان الخلاّبة بأسلوب يجمع بين الفائدة والمُتعة والدُّعابة والعبرة.
ثم سافر إلى السعودية عام 1963 وبقي فيها إلى أن مات رحمه الله مساء الجمعة في 4 ربيع الأول / 1420هـ وصُلِّي عليه في المسجد الحرام ودُفن في مكَّة المشرَّفة. ودرَّس في السعودية في الجامعات وكان له أحاديث في وسائل الإعلام جَذَبَتْ إليه قلوب الملايين من كل العالم الإسلامي. واشتهر رحمه الله ببرنامج الإذاعي اليومي (مسائل ومشكلات) والتلفزيوني الأسبوعي (نور وهداية) فضلاً عن برنامجه اليومي الذائع الصيت (على مائدة الإفطار) في كل رمضان من كل عام عند الإفطار.
قطوف من آرائه ومواقفه ومآثره رحمه الله:
سافر إلى العديد من بلاد العالم الإسلامي وكَتَبَ عن كثير منها، وشارك في الكتابة في أعظم المجلات الأديبة في مصر وكان متأثراً في مذهبه الأدبي بالمنفلوطي، منها (الزهراء) و(الرسالة) و(الثقافة). وقد عُرف بقوة شخصيّته وجُرأته في الحق وخاض معارك فكرية وسياسية مع (القومية العربية) و(الماسونية) و(الشيوعية). وكان في مقدمة المجاهدين ضد الاحتلال الفرنسي، كما حمل همّ القضية الفلسطينية في قلبه الكبير وسافر من أجل دعمها وجَمْع التبرعات لها وتحريض المسلمين على الجهاد لتحريرها إلى العديد من بلدان المسلمين.
وقد حصل على جائزة الملك فيصل العالمية (عام 1990م) لخدمة الإسلام.
وله العشرات من الكتب المنوّعة وحوالي خمسين مقدمة لكتب غيرِه من القُدامى أو المعاصرين جمعها الأخ البحّاثة الشيخ مجد مكي في كتاب (مقدمات الشيخ علي الطنطاوي) وصدّرها بتعريف بالطنطاوي ثم قدم لها الطنطاوي نفسه بمقدِّمة المقدِّمات. وذكرياتُه التي كان يُمليها من ذاكرته لنشرها على صفحات جريدة (المسلمون) ثم جريدة (الشرق الأوسط)، ويُعتبر فيها بحق (شاهد القرن العشرين) لا يستغني عنها طالب علم ولا دارس لتاريخ الدعوة الإسلامية المعاصرة كما لا يستغني عنها أديب ولا مؤرِّخ. يقول فيها (3/211): "بدأتُ أقرأ سنة 1335هـ – أي عندما كان عمره 8 سنوات – ونحن اليوم في سنة 1405 وأنا أقرأ أكثر ساعات ليلي ونهاري فلو قدَّرتُ لكل يوم مئة صفحة – وأنا في الحقيقة أقرأ أضعافَها – لكان مجموع ما قرأت مليونين ونصفاً من الصفحات!!" وفصَّل حساب ذلك في موضع آخر (4/77) ثم قال: "كنت – ولا أزال – أقرأ في كل عِلْم: في التفسير، وفي الحديث، وفي الفقه، وفي التاريخ، وفي الأدب العربي والأدب الفرنسي، وفي العلوم على تنوُّعها وتعدُّدها.
الله أكبر! هكذا فليكن العلماء! رحمك الله يا (شيخ عليّ) وأثابك على أوقات مطالعتك وأسفارك من أجل التدريس أو الاهتمام بقضايا المسلمين حسناتٍ وفيرةً ونِعَماً مديدة؛ رحمك الله وأرضاك. وأَنْعم عليك في قبرك وجعل الجنّة مثواك.
وكان له رحمه الله أساليب مفيدة مبتكرة في التربية والتعليم نَثَرَ الحديث عنها في حلقات ذكرياته وخصص الحلقة 174 (6/233) بعنوان: خواطر وصور عن التربية، والحلقة 175 (6/245) بعنوان: ما الذي يجعل تعليم الأمس أكثر رسوخاً...؟ والحلقة 176 (6/257) بعنوان: من ذكرياتي في تعليم التلاميذ وتربية البنات.
وجمعَتْ سِبطته (بنت ابنته الدكتورة بَيَان) الأخت الكريمة الكاتبة (عابدة العظم) معلوماتها عن أساليب ومزايا التربية عند جَدّها في كتاب طُبع بعنوان ((هكذا ربّانا جدي علي الطنطاوي)) كما جمع زوجها الأخ مجاهد ديرانية فتاوى جَدّه أيضاً (وهما ابنا خالة) في كتاب (فتاوى علي الطنطاوي) الذي طَبَعته دار المنارة.
ومن آرائه التي سَجّلها في تقديمه لكتاب الشيخ النَّدْوي (في مسيرة الحياة: 1/14)، أن تترفّع أي جماعة إسلامية عن المعارك السياسية التي لا غاية لها إلا الوصول إلى كراسي الحكم، يسلك أصحابها إلى ذلك كلَّ طريق، المستقيم منه والمُلتوي، ويتّخذون كل ذريعة: الطيبة والخبيثة. والإسلام يريد أن تكون الغاية حسنة وأن يكون الطريق إليها مستقيماً آمناً، وأن يكون أسلوب الدعوة بعيداً عن أساليب الأحزاب السياسية التي لا تبغي إلاّ المناصب والألقاب، عملها التزاحُم عليه والتسابق إليها. ا.هـ.
ويقول رحمه الله في ذكرياته (4/78): خطبتُ خطباً هزّت الشعب وزعزعت كراسي الحكّام... وأنا من أَقْدم من تكلم في الإذاعة... ولا أزال أتكلم فيها إلى الآن، وفي الرائي (التلفزيون) من حين عَرَفنا الرائي، وكنتُ أول من دخل الإستديو في جُدّة... علّمتُ في جميع مراحل التعليم من المدارس الأوّلية في القرى، إلى البدائية إلى الثانويّة، إلى الجامعة، إلى أقسام الدراسات العُليا فيها. واشتغلتُ بالقضاء من أدنى درجاته إلى أعلاها، حتى لقد أُحلت إلى المعاش وأنا مستشار في محكمة النقض (التمييز) في دمشق، وفي القاهرة أيام الوحدة. ووضعت مشروعات قوانين لا يزال العمل بها في الشام: قانون الأحوال الشخصية. وقانون الإفتاء، ومناهج التعليم في مدارس وزارة الأوقاف.
والشيخ رحمه الله لم يُنجب ذكوراً وله خمس بنات احتسب واحدة منهن (بنان زوجة الداعية الأستاذ عصام العطّار) شهيدة عند الله في سبيل الدعوة الإسلامية فقد اغتيلت بأيدي الحاقدين على الإسلام (مخابرات النظام السوري) في آخن بألمانيا حيث كان لها نشاط نسائي دعوي في سبيل الله. وهل يقرأ أحد ما كَتَبَه عنها في إحدى حلقات ذكرياته – (الحلقة 164: 6/119 – 129) بعنوان: إنَّ الشَّجَى يبعثُ الشَّجَى، لماذا أتحدث عن بَنَان...؟ - إلا وتمتلئ عيناه بالدموع؟
وبعد..
فإن الكتابة عن هذا العَلَم تحتاج إلى كتابٍ ضخم يكتبه أحد معارفه لعظيم أثره وتميُّز شخصيته واتساع معارفه ولأنه نموذج من العلماء فريدٌ في عصرنا. وحسبي أنني عشت بهذه السطور التي كتبتُها عنه مع طيف ذكراه رحمه الله، عرّفتُ فيها من لم يعرفه بما يُغريه في الاستزادة من المعلومات عن هذه الشخصية النابغة واقتناء كُتُبه والانكباب عليها، ولا أدّعي له الكمال ولا العصمة فهو كان رحمه الله من أشد الناس نَقْداً لنفسه وذِكْراً لعيوبه – كما ينظر إليها هو – إنْ كان في مجالسه أو على صفحات ذكرياته، ولكن أكتبُ بما علمتُ. ولقد كَتَبَ مقالات تُعَدّ بالمئات في عشرات الصحف والمجلاّت وألّف كُتُباً نافعةً ماتعة استفادت منها الأجيال. وأرجو من الله أن يغمُرَ بحرُ فضائله وعِلْمه ومآثره وجهاده ومواقف ذبِّه عن الدين وغَيْرته على الإسلام فقاعاتِ أخطائه وكَبَواته. أما من يعرفونه فليسوا بحاجةٍ إلى ما كتبتُه عنه إلا أنْ أستفيدَ بهذه الكتابة محبةً منهم ودعاءً صالحاً تلهج به ألسنتُهم لانخراطنا معاً في سِلْك واحد: سلك تقديرالشيخ رحمه الله والوفاء لجهاده في سبيل الإسلام والحُبِّ له.
أوسَعَ الله مثواه في قبره، وأغدق عليه من فضله ورضوانه، وجمعنا معه في مستقرّ رحمته. اللهم آمين.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن