بكالوريُس كيمياء
تحلّ قبل أن تتخلّى
بلسان فتاة يافعة، وبقلب عجوز جازعة، بأمل صغيرة منتصرة، وبندم كبيرة متحسِّرة، بدعوةِ شابة طموحة، وبرجاء امرأة نائحة، بمهجة بطلة فعّالة، بجدية سوسة قتّالة؛ أنقل إليكم قصتي التي نهشها الشر من بعد خيرٍ عامٍّ، إلى أن أنقذني ربي:
اسمي هناء، عمري عشرون سنة، شابة مسلمة مؤمنة، خلوقة وجادّة متعلِّمة ومثقَّفة، لا أضيع وقتي في اللهو والغيبة والنميمة؛ بل في علمي ودروسي ومساعدة أهلي وذوي الحاجة. وهل للشيطان اللعين عمل وغاية غير أن يفسد علينا صلاح أمورنا وجمال أيامنا؟
كنت في السنوات التي مضت في أوج تألُّقي وتفوُّقي، أُحرز المراتب الأولى في الميادين التي أنخرط بها، وذلك بفضل الله الذي مَنَّ عليَّ بالصحة والرفقة الصالحة والعقل الراشد، أجاهد نفسي في العبادة والطاعة، وكذلك في تجنُّب المعاصي. ولكن ماذا عن وسوسة الشيطان وكيده وساعة الغفلة؟ بخبثه يأتي المؤمنَ من باب الخير فيفسده عليه، لا من باب المعاصي؛ كي يتفنَّن ويتقن خراب الأحوال، فقد أتاني من باب ترك العلم الأكاديمي، قد أوهمني أنه علمٌ زائف، لا نفع منه، والهدف منه تحقيق المناصب والشهرة والتباهي، بل وتضييع لسنوات العمر؛ مع أنّ كلام مشايخنا الأفاضل كان يصارعني في رأسي من حرمانية ذهاب المرأة للرجال وللطبابة، وعدم اختلاط المرأة مع الأجانب، وهذا كلُّه يدلُّ أنَّ على المرأة أن تكون جادَّة نشيطة، ساعية لقضاء حوائج أخواتها؛ كي لا يكنَّ في وضع حرج وبحاجة ماسة للرجال. فتوجهت من بعدها مباشرة لمركز العلوم الشرعية، والاكتفاء بذلك فحسب، وما هو إلا أسبوع على المواظبة والثبات إلَّا وهاجمني وهمٌ آخر ووسوسة أخرى؛ ألا وهي أنَّ مَن يريد أن يعبد الله فليعبده في بيته، وأنَّه خير للمرأة أن تبقى في بيتها وتعبد ربها، فالله في كل مكان، وعبادته تكون أنقى وأفضل عن أعين الناس وأنظارهم!!! وبالفعل لم أَعُدْ أذهب لمعهد العلوم الشرعية.
وأسبوع بحاله وأنا على همَّة وتواصل ومتابعة للمشايخ على القنوات الفضائية، ومن بعدها بدأتُ أشعر بخمول وكَلَل، ومدة متابعتي بدأتْ تتقهقر، وبتُّ أحسُّ بلهفة شديدة للفراش. وما هي إلا بضعة أيام حتى عفت التلفاز؛ لأنه يحرمني من الاسترخاء والنوم، وبدأت فقط أسمع محاضرات على جهازي الخليوي. وأيام أخرى كان شعور الضجر والنعاس يعتريني، وتخلَّيتُ وتخلَّيتُ وما تحلّيت...
شهورٌ مضت على هذا الحال، وأهلي جمعيهم استاؤوا من أحوالي، وأنا بفعل وسوسة الشيطان وتقصيري في مشاورة أصحاب العلم والفكر ومرافقة الأخيار هلكت!
هناء تأوي إلى فراشها متكاسلة وخاملة، حارمة نفسها وأخواتها طاقات كامنة؛ كفيلة بأن تسعف امرأة وتحفظها من الخيانة، وبأن تمسح دموع اليتامى، وتعطيهم من علمها الغزير في مراكز عديدة، وتسعد قلب والديها اللَّذَين رأيا في هناء الشمعة التي لا تنطفئ. هناء لم تعُدْ من أهل هذا الحديث: "أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهم للناس" [أخرجه الطبراني].
لكن حلم الله أوسع وعفوه أكبر، هناء كانت تصلي، نعم كنت أصلي الصلوات الخمس بالرغم من أنّ الكثير من النوافل قد استهنت بها وتخلّيت عن القيام بها. وذات يوم وبينما أنا متوجهة إلى الفراش متقاعسة خاملة، وما إن أغمضت جفني؛ وإذ بصوت بديع خلَّاق في الراديو - الذي اعتادت أمي أن تشغِّله كل يوم -حديث لفضيلة الشيخ محمد راتب النابلسي يقول فيه: إنّ الله عزَّ وجلَّ وِترٌ يُحب الوتر، أي: أن يكون الشخص متألقاً متفوقاً لامعاً برَّاقاً في حياته، وأنَّ هناك أعدادًا هائلة من الناس خلقها الله لغاية، وعاشت بلا غاية، وماتت على هذا الحال، كأنَّ شيئاً لم يحدث؛ بل بمثابة صفر على يسار عدد، وأنَّ هناك أناسًا أتوا لهذه الدنيا -والجهاد والكفاح نَصْبَ أعينهم ليحقِّقوا الفلاح والنجاح -يعطون ويضحُّون ويصنعون أمجادهم، فيتوفاهم الله؛ ويبقى وراءهم الأثر محفورًا خالدًا، وأنَّ بمجرد ذكرِ حسنةٍ لهم، أو بقراءة سطر من كتاباتهم تخرجهم من الظلمات إلى النور، أو بسجدةٍ في مسجد قد بنَوه..
هنا فتحت عينيَّ وكأني كنت في غيبوبة، انتفضت وشرعت أبكي وأبكي، وفي كل دمعة ألف قصة، حرقة وندم، ونعي للنفس، نعم بتُّ أُلقيها قائلة: ماذا حلَّ بك؟ أين كانت درجاتك ومراتبك؟ أين صرتِ؟ ألم تكوني ألمع العقول تفكيراً وذكاءً وحنكة؟!
أين اسمك "هناء"... قد اضمحل والله، لم أرَ في تراسيم حياتك وزواياها غير الشقاء.
هبَبتُكالريح، قبَّلت يدي أمي وأنا ذارفة الدموع مردّدة: "الله يلعنك يا إبليس"، ورحت أساعد أمي؛ والله وكأني لأول مرة أرى زوايا بيتي... كم هو لعين! ألهاني عن رضاك يا أمي، أعمى أذنيّ عن سماع كلمة الرضا، وعيناي عن رؤيتها البسمة في عيونها وعلى ثغرها.
عدت بعدها مباشرة للتعلم في الجامعة اللبنانية، وها أنا أدرس الآن فرع الفيزياء، وأريد أن أختص في علم النووي، وأرفع راية الإسلام، وأمكّن حضارته، كما عدت لمعهد العلوم الشرعية, وها أنا مواظبة وأحترم المواعيد والحضور، وبت أخرج وأحضر أي محاضرة فيها فائدة؛ بل وأسعى لها سعياً.
إني سعيدة اليوم، وسأبقى سعيدة بفضل الله، وفي كل عمل أنفِّذه سأرسم بسمة، سأطردهمّاً، وأحِلُّتفاؤلاً وهناءً بوجوه كل المسلمين،بل والعالمين. كل هلاكي كانت بدايته بترك باب الخير، وتركي للعلوم الأكاديمية, فعلينا أن لا نسمح للشيطان أن يسرق مواهبنا الكامنة، بل علينا بذلها وطرحها بين أيدي الناس ليستفيدوا منها، بل نعطي ونضحِّي في سبيل الله، فالله أكرم وأجود.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة