مستويات الأمانة
كتب بواسطة د. محمد راتب النابلسي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
21720 مشاهدة
الله عز وجل حين كلّف الإنسان حمْل الأمانة في قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا * لِيُعَذِّبَ اللهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا). منحه مقومات هذا التكليف، فسخر له ما في السماوات وما في الأرض، جميعاً منه، تسخير تعريف وتكريم ليؤمن به ويشكره.
ومنحه بعد ذلك العقل قوةً إدراكيةً، يتعرف به إلى الله من خلال الكون، قال تعالى: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ).
وأودع فيه الشهوات ليرقى بها صابراً أو شاكراً إلى رب الأرض والسماوات.
ومنحه الإرادة الحرة، ليصح التكليف والابتلاء، وليكون النجاح فيهما ثمن العطاء.
وحرصاً على قيامه بواجب التكليف، بعث الأنبياء والرسل وأنزل معهم الكتاب بالحق.
وبعد أن يكون المرء أميناً على نفسه، من أن تَضِل أو تَزِل،يمكن أن يكون أميناً مع الخلق.
وأمانة الخلق لها مستويات عديدة ودوائر متعاظمة، وهي بحسب عِظمها:
• أمانة التبليغ: وهي الأمانة العظمى التي حُمّلت للأنبياء والمرسلين، الذين هم أمناء وحي السماء، وقد رعَوها حق رعايتها وأدّوها على الوجه المطلوب، فظهرت في عصورهم بطولات فذّة، ومجتمعات فاضلة مكنت قوى الخير من أن تنتصر على قوى الشر.
• أمانة التبيين: ثم أوكلت هذه الأمانة إلى العلماء الذين هم ورثة الأنبياء، وأمناء الرسل، وقد أدى الأصحاب الكرام، والتابعون الأعلام، والعلماء العاملون المخلصون من بعدهم هذه الأمانة، وحفظوا ميراث النبوة، وتحمَّلوا مسؤولية الأداء، وما تنصَّلوا، وما تعلَّلوا، وما اعتذروا، وما ألقوا ذلك على عاتق غيرهم، فكانت مجتمعاتهم بشكل أو بآخر امتداداً لعصور الازدهار والتألق.
• أمانة الولاية: ومن مستويات الأمانة، أمانة الولاية، وهذه الأمانة تكمل أمانة التبليغ، وأمانة الأداء.. وقد ورد: «صنفان من الناس إذا صلحا صلح الناس وإذا فسدا فسد الناس: العلماء والأمراء...».
• أمانة الواجب: من معاني الأمانة أن يحرص المرء على أداء واجبه كاملاً من خلال العمل الذي أنيط به، وأن يستنفد جهده في إبلاغه تمام الإحسان انطلاقاً من الإيمان والشعور، بأن الله سيسأل عن العمل الذي وُكل إليه، هل أداه كاملاً غير منقوص؟ أم كان الخلل والتقصير.. وهل نصح أم غش؟ وهل أتقن أم أهمل؟.. وهل أنصف أم ظلم؟.. وهل أحسن أم أساء؟.. وهل رحم أم قسا؟.. وهل حفظ أم ضيَّع؟.. وهل أعطى أم منع؟..
فالطالب أمانة في عنق المعلم، فهل عنِي في تعليمه وتقويمه، أم أهمل وقصَّر؟ وهل كان مخلصاً للحقيقة، أم مزوراً لها؟..
والمريض أمانة في عنق الطبيب، فهل حرص على شفائه من دائه أم حرص على ابتزاز ماله؟..
والموكِّل أمانة في عنق المحامي، فهل صدقه ونصحه؟ والخصمان المتنازعان أمانة في عنق القاضي فهل عدل أم ظلم؟
والأبنية والمنشآت والجسور والطرقات أمانة في عنق المهندس الذي صممها والمهندس الذي نفذها، والمهندس الذي تسلمها.. هل حفظ مال الأمة أم ضيعه؟..
و الصنعة والحرفة أمانة في عنق الصانع فهل أتقنها؟!، والمستهلك أمانة في عنق البائع فهل نصحه أم غشه، في النوع أو الكم أو السعر؟..
ويدخل في أمانة الأموال: البيوع، والديون، والمواريث، والودائع والرهون، والعواري، والوصايا، والهبات، وأنواع الولايات الكبرى والصغرى، وغير ذلك.
ويدخل في أمانة الأعراض كفُّ النفس، والسمع، والبصر، واللسان، واليد، والغيبة، والقذف..
ويدخل في أمانة الأجسام والأرواح كفُّ النفس، واليد عن التعرض لها بسوء، من قتل، أو جرحٍ، أو ضر، أو أذى..
ويدخل في الأمانة، الأمانة العلمية، وهي صحة النقل، ونسبته إلى صاحبه، من دون تحريف أو تزوير، أو انتحال، أو حذف، أو زيادة أو تدليس..
ومن الأمانة صيانة حقوق الابتكار، والاختراع وعدم التقليد وعدم تقليد العلامات التجارية.
ومن الأمانة صيانة الحقوق الأدبية للإنتاج الأدبي والعلمي، وعدم النقل، والاقتباس، وكذلك الطبع دون إذن صاحب المؤلف..
يقول صلى الله عليه وسلم : " إن الله تعالى سائل كل راع عما استرعاه، قَلَّت رعيته أم كثرت أحفظ ذلك أم ضيعه؟ حتى يسأل الزوج عن زوجته، والوالد عن ولده والسيد عن خادمه، هل أقام فيهم أمر الله ؟".
• أمانة المجالس: ومن معاني الأمانة، أن تحفظ حقوق المجالس، التي تشارك فيها فلا تدع لسانك يفشي أسرارها، ويسرد أخبارها، فكم من حبال تقطعت، ومصالح تعطلت لاستهانة الناس بأمانة المجالس، وذكرهم ما يدور فيها من كلام منسوبٍ إلى قائله، أو غير منسوب قال (صلى عليه وسلم): "إذا حدَّث الرجل رجلاً حديثاً ، ثم التفت فهو أمانة".
• أمانة العلاقات الزوجية: وللعلاقات الزوجية في نظر الإسلام قداسة، فما يضمه البيت من شؤون بين الرجل وامرأته، يجب أن يطوى في أستار مسبلة، فلا يطَّلع عليه أحد، مهما قرب.. قال: "إن أعظم الأمانة عند الله يوم القيامة الرجل يفضي إلى امرأته وتفضي إليه، ثم ينشر سرَّها".
هذه مستويات الأمانة، وما لم يفهمها المسلمون اليوم على هذا النحو فلن يحققوا أهدافهم في الانتصار على أنفسهم ومن ثم النصر على عدوهم.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
جزاك الله خيرًا ونفع بك