داعية، مسؤول فرع جمعية الاتحاد الإسلامي في البقاع وعضو هيئة علماء المسلمين في لبنان
الرحلة إلى ساحل الذهب
كتب بواسطة يوسف القادري
التاريخ:
فى : المقالات العامة
2802 مشاهدة
في الأول مِن رمضان 1437هـ هَبطَتْ طائرتنا في مطار أكرا عاصمة غانا الإفريقية على تقاطع خط الاستواء مع غرينتش بعد رحلة امتدَّتْ 5000 كلم جهة جنوبَ غرب لبنان. إنها مسافة بعيدة فعلاً! ومِن على شاشات الطائرة كنا نراقب الحدودَ الفاصلة بين الليل والنهار في الكرة الأرضية فتذكرت حديث رسول الله (صلى الله عليه وسلم).
"ليَبْلُغنَّ هذا الأمرُ ما بَلَغَ اللَّيلُ والنَّهار، ولا يَترُكُ اللهُ بيتَ مَدَرٍ (تراب) ولا وَبَرٍ (خِيَم الصوف) إلَّا أدخله اللهُ هذا الدِّين، بِعِزِّ عَزِيزٍ أو بِذُلِّ ذَليلٍ، عِزًّا يُعِزُّ الله به الإسلام، وذُلًّا يُذِلُّ الله به الكفر" رواه أحمد. وصل الإسلام إلى عمق القارة السمراء منذ القرون الأولى للهجرة، ويَرُدّ المؤرخون ذلك إلى عهد دولة المرابطين التي بلغت ذروتها مع يوسف بن تاشُفين المتوفَّى سنة 500هـ، ويبدو أن المنطقة كانت تتعرض للمد والجَزْر ففي القرن التاسع الهجري تَدفَّق التجار المسلمون مِن قبيلة الهوسا، وبعدَهم مهاجرون مِن قبائل الماندي من حوض النيجر ومن شمال نيجيريا.
تَجَاوز عدد السكان 24 مليون نسمة، على مساحة تقارب 240 ألف كلم2، يتكلمون عشرات اللغات القَبَلية المحلية (قُرابة 79 لغة) واللغة الرسمية هي الإنكليزية؛ لغة البريطاني المحتل. ورغم إعلان النظام الجمهوري فلا زالت الأعراف القَبلية قائمة، وصلاحيات زعمائها نافذة.
التضارب كبير بين إحصاءات التوزّع الديني إلا أن بعضها يؤكّد كون المسلمين أكثر السكان، يليهم النصارى، الذين يتميزون بحسن الصِّلة والجوار، ثم ديانات متنوعة من الوثنية والقاديانية والإسماعيلية والروحانية، وصولاً إلى شريحة لا تَعتنق دِيناً.
أما الجالية اللبنانية فاحتفلت بمرور 110 سنوات على وجودها في غانا، ومِن المهاجرين الأوائل: سالم القلموني الذي وصل سنة 1912م، وآخرون مِن عائلة الولي وغيرها.
ورغم قلة الجالية نسبياً (نحو 13 ألف لبناني) إلا أن بصمتهم ظاهرة على الحياة العامة؛ خاصة في العاصمة أكرا وفي المدينة التجارية كوماسي؛ ابتداءً مِن اللمسات الدعوية ببناء بعض المساجد والمدارس، مروراً بالشركات التجارية والخدمات المتنوعة، وأصحاب الاختصاصات العلمية التي تعتمدهم الدولة استشاريين، وصولاً إلى الجوانب الاجتماعية بما في ذلك التزاوج والمصاهرة.
ومِن اللافت أن الجالية محافظة على لغة القرآن رغم توالي الأجيال؛ باعتمادها لغةً للتخاطب في البيوت، وبالدروس الخاصة المنزلية، كما أن بعضهم يبعث أولاده عدة سنوات للدراسة في لبنان. وإن بقاء اللغة العربية مؤشِّر بقاء أصل الدِّين، وفهم القرآن الكريم.
عوداً على بَدْءٍ فإن رحلتي مع الشيخ محمد طالب تميزت في: الزمان (شهر رمضان)، والمكان (القارة الخضراء السمراء)، والمهمة (الدَّعوة)؛ وقد التقينا شرائح مِن الناس يَغلب عليهم التواضع، وكَرم الضيافة، ونشأت بيننا صِلات الأُخوَّة في الله والمودة.
ومِن مبشرات تَقدُّم الحالة الإسلامية هناك: نشوء العَمل العام والمؤسسات في الجيل الثاني والثالث مِن الجالية، واستمرار الجيل الصاعد في تطويرها والإضافة إليها، والتعاون مع الجاليات الإسلامية كالمصرية والتركية.
وقد زرنا مقر الجمعية الإسلامية للتربية والإصلاح الغانية في أكرا التي تأسست سنة 1985م، وتتابع عدة مؤسسات؛ منها:
الكلية القرآنية، ومدرسة الريان الدَّولية التي استقطبت طلاباً من 40 جنسية، ومدرسة المدِينة الإسلامية، والثانوية الإسلامية الغانية اللبنانية، ومعهد المدينة للعلوم والتكنولوجيا، ومعهد إعداد المعلمين الإسلامي في كوماسي. كما أنه تم تأسيس جامعة لتنطلق قريباً بإذن الله.
وكلما ذُكرتْ إفريقيا ذُكِر الطبيب الكويتي عبد الرحمن السُّمَيط رحمه الله، وفي المدينتين السابقتين مراكز لمؤسسته "العون المباشر".
وكانت لنا فرصة التواصل مع أهل البلد الأصيلين والمقيمين في صلوات الجمعة والتراويح، كما في زيارات البيوت والمتاجر، للتعارف وتبادل الآراء والخبرات. وقد رافقَنا بعض الإخوة في معظم جولتنا جزاهم الله خيراً منهم الشيخ أيوب عمر مندوب جمعية الاتحاد الإسلامي وهو شاب غانيّ تَخَرَّج من جامعة بيروت الإسلامية في لبنان، وواحد مِن 231 شخصاً نالوا إجازة حفظ القرآن من مؤسستنا دار القرآن الكريم، وواكَب نشاطات الجمعية ومؤسساتها المتنوعة ويسعى لنقل التجربة إلى بلده، وينفذ للجمعية أعمالها هناك؛ كمشروع الأضاحي، وحفر الآبار، وترميم المساجد، وله حركة طيبة بين أهل البلد وبين الجالية اللبنانية. واطَّلَعْنا على طَرف مِن جهوده مع إخوانه في دار القرآن في غانا التي تنظم حلقات الإقراء والتحفيظ وغيرها.
من الملحوظ أن أداء الصلوات الخمس مِن ثوابت المسلم في غانا، لكن بالمقابل ليست الروابط الأسرية في حالة حَسَنة خاصة لدى البيئات الفقيرة، مما ينعكس سلباً على معايير وضوابط العلاقات الاجتماعية والمالية.
ولا زال كثير من الشعب يعاني الجوع والفقر والتجهيل رغم غِنى تلك البلاد وثرواتها، فإنتاجها مِن الذهب يبلغ مليونين وخمسمئة ألف أونصة سنوياً! فلا بد مِن السعي لتقوية الإيمان، ونشر الدعوة والوعي والعلوم الكونية ليصححوا مسارهم السلوكي ويعالجوا أمراضهم الاجتماعية، ويحسّنوا تنظيم حياتهم واستثمار ثرواتهم.
وإن الجالية اللبنانية تؤدي جزءاً مِن هذا الدور يتكامل مع أعمالِ مؤسساتٍ ومبادراتٍ فردية مِن دعاة بلاد أخرى، لكن المأمول مِن الجميع أن يضاعفوا الجهود لأداء هذا الفرض الكِفَائي، وأنْ يقتدي المقصرون بالتجار الملتزمين الذين يؤدون زكاتهم كاملة موفورة طيبة بها نفوسهم، خاصة مع غياب تاريخي لهيكلية تُنَظِّم شؤونهم الدينية: العلمية والإدارية والمالية، وقد سعت شريحة علمائية مِن أهل السنة والجماعة لتكتيل طاقاتها رغم قلة إمكاناتها. وفي المقابل فإن المشروع الدخيل الذي دَمَّر سوريا وقتل أهل السنة في العراق واليمن يَضُخُّ الأموال لنشر الفساد وشق الصف.
مِن الجدير بالذكر أن المدارس في غانا كانت للاحتلال البريطاني أو إرساليات تنصيرية تفرض على الطلاب تغيير أسمائهم الإسلامية وحضور دروسهم الدينية وصولاً إلى التنصر! وهذا جعل معظم المسلمين ينأى بأولاده عن التعليم الأكاديمي، فنشأت أجيال مسلمة غير مؤهلة للقيادة وإدارة مرافق الحياة. وبعدما نالت غانا استقلالها سنة 1957م تسلَّمتْ الدَّولة مدراس كثيرة وأتاحت للمسلمين الحرية الدينية، فالمدارس تتحول يومَي السبت والأحد إلى ما يُسمونه "ماكرانتا" (كلمة نَحَتوها مِن "مقرأتنا": مقرأة القرآن)، وللماكرانتا أثر واضح في أخلاق وثقافة الطلاب الذين يرتادونها، وفي انضباط حجاب طالباتها. كما أن عدد طلاب الجامعة الرسمية باختصاصاتها الكونية كان حتى عهد قريب يَكاد لا يُذْكر، لكنه في تزايد ملحوظ.
وقد سافر كثير مِن خريجي المعاهد الشرعية المحلية للاختصاص في وبيروت والمدينة والأزهر وغيرها، مما انعكس إيجاباً على الوعي والجهد الإصلاحي، وتنقية المعتقدات من البدع.
وتبقى هذه ومضات نقلة نوعية وإشراقة أمل تُحتِّم علينا العمل حتى يَبْلغ هذا الدِّين ما بَلَغَ اللَّيلُ والنَّهار.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة