من حقيقة العبودية
(لو أنك لا تصل إليه إلا بعد فناء مساويك ومحو دعاويك لم تصل إليه أبدا ولكن إذا أراد أن يوصلك إليه غطى وصفك بوصفه ونعتك بنعته، فوصلك بما منه إليك لا بما منك إليه لولا جميل ستره لم يكن عمل أهلا للقبول).
أدلة الشريعة متضافرة على أن العمل الصالح طريق الجنة، وأن العمل الطالح طريق النار، وقد وعد الله المؤمنين بالنعيم وتوعد الفجار بالجحيم، ورفض أن يسوى بينهما في الجزاء، وعد ذلك سوء حكم، [إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ أَفَنَجْعَلُ المُسْلِمِينَ كَالمُجْرِمِينَ مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ] {القلم:34-36}.
وقد أخبر الله تعالى أنَّ النعيم الذي يصير إليه أهل الإيمان والصلاح لا يتغير.
[إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللهِ حَقًّا وَهُوَ العَزِيزُ الحَكِيمُ] {لقمان:8-9}
كما أخبر أنَّ أهل الفسق والكفران لابدَّ أن يذوقوا أليم العذاب [أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ(24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ(25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللهِ إِلَهًا آَخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي العَذَابِ الشَّدِيدِ(26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ(27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالوَعِيدِ(28) مَا يُبَدَّلُ القَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ(29)]. {ق}.
وفي هذه الآيات ـ وهي نماذج لمئات غيرها ـ ما يدل بوضوح على أن الإنسان صانع مصيره، وأنه يشق بيده طريق مستقبله، وأنَّ القدر لا يسوق الناس إلى دار الجزاء خبط عشواء.
كلا، إنهم يجنون في الدار الآخرة ثمار ما غرسوا في الدار الدنيا...
وكل كلام غير هذا فهو إمَّا جهل بالإسلام أو افتراء عليه.
بيْد أنَّ من تمام العمل الصالح أن نقدِّره قدره، وألا نتجاوز به حدوده.
فإنَّ من ظن أن عبادة عدد سنين في الأرض هي الثمن الحقيقي لخلود غير متناه في السماء رجل مجازف.
ومن ظن أن الطاعات التي تقدم بها، سليمة الأداء نقية اللباب تثبت على النقد والتمحيص فهو رجل مخدوع.
ومن ظن أن ما نهض إليه من ـ واجبات وما تطوع به من نوافل أرجح من النعم التي عجلت إليه في الدنيا فهو هازل.
الواقع أنَّ الله جلَّ شأنه ينظر إلى نيّات الخير في قلوب أهل الإيمان فيعفو عن كثير من زللهم، ويتجاوز عن كثير من تقصيرهم، ويكثر قليلا من الأعمال التي يقومون بها.
كما يكثر للفلاح حصاد زرعه، وان كان ما بذر يسيراً.
ولولا هذا ما شعر بلذة الفوز أحد [وَلَوْلَا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ] {النور:21}.
إن الاغترار بالعلم رذيلة تسقط قيمة العمل، ولو أن أحداً طالب الله أن يقربه إليه، أو أن يجزل له المثوبة، ناظرا في ذلك إلى ما بذل من جهد ما استحق عند الله شيئا طائلاً.
والواجب أن يتقدم الإنسان إلى الله وهو شاعر بتقصيره، موقن بأن حق الله عليه أربى من أن يقوم بذرة منه، وأنه إذا لم يتغمده الله تعالى برحمته هلك.
هبك بذلت نفسك، ومالك له...
أليس هو خالق هذه النفس؟ أليس هو واهب هذا المال…؟ فإذا أدخلك الجنة بعد... ألا يكون متفضلاً؟ وانظر إلى سلسلة الأعمال التي تؤديها خلال فترة المحيا على هذه الأرض، كم يكتنفها من علل النفس وآفات التقصير؟ إنها لو كانت أعمال غيرك فعرضت عليك أنت ما قبلتها إلا على إغماض طويل وتجاوز خطير!!
إن المؤمن يعمل، ولكنه لا يتطاول بعمله أبداً.
وهذا يفسر الحديث المشهور عن النبي صلى الله عليه وسلم : (لن يدخل الجنة أحد بعمله!) قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: (ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته)
والغريب أن ناساً فهموا من النهي عن الاغترار بالعمل أنه إسقاط لقيمة العمل جملة!
وسار الأمر في أدمغتهم على هذا النحو، والعمل لا يدخل الجنة، فلا ينبغي أن تتعلق الهمم به، فلا ضرورة لبذل المجهود فيه!!!
ثم قرروا بعد ذلك أن العمل الصالح ليس طريق الجنة وأن الجنة هبة من الله يمنحها من يشاء ولو-لم يعمل خيراً قط.
بل ذهبت الغفلة ببعض المتكلمين إلى الزعم بأنه يجوز أن يدخل الأشرار الجنة وأن يدخل الأخيار النار.
وهذا لغو من القول، وغباء في الفكر، وافتراء على الله والمرسلين.
وليت شعري ما يكون موقف هؤلاء عندما يقول الله للمؤمنين يوم الحساب:ً[وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ] {الزُّخرف:72-73}...
ثم يستتلى الكلام الإلهي : [إِنَّ المُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ] {الزُّخرف:74-76}
المصدر: من كتاب الجانب العاطفي من الإسلام
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن