كاتب في القضايا الفكرية، محاضر ومقدّم دورات في التربية، له مؤلفات ومقالات منشورة.
https://www.facebook.com/tahayassen1980
إن أكثر ما يغري الناس بالمعصية والإمعان فيها هو شعورهم بأن الجزاء الذي وعدهم الله سبحانه وتعالى به بعيد، وأن بينهم وبينه سَعةً من الوقت للتوبة والإنابة، وأن النُّقْلَة من الدنيا -التي يحيونها مسرفين على أنفسهم، عاكفين على شهواتهم وأهوائهم -بعيدة، وبعيدة للغاية...
هذا وإن المداومة على مقارعة المعاصي؛ تفضي إلى حبٍّ شديد لها، يتشرب في خلايا الجسم، فيغلق على صاحبها النوافذ التي يمكن أن يطَّلع منها على الحياة الخالدة.
ولهذا كان من الصعوبة بمكان أن يُقلع المؤلَّفُ قلبه بهذا الحب عما عهدته نفسه من لذيذ الشهوات وأنس الأمكنة والأزمنة التي تعلقت بها.
خاصة وأن الحياة الآخرة، التي تُقرأ أحداثُها في الكتاب المبين -كركن أساس من أركان الإيمان، والتي تزاحمت أحاديثُ نبويَّة كثيرة تخبر عنها، فتَعِدُ الطائعين الصابرين، وتُوعد المسرفين المستكبرين -لا تزال حتى الآن غيباً لم يُشهد بعد..
ولو أن الجزاء كان ماثلاً في الدنيا؛ بحيث يقال لشارب الخمر: خذ هذه القارورة من الخمر فاشربها، وانظر هذا التنور ستلقى به بعد أن تنتهي؛ ما شرب شُربة حرام أبداً..
وبحيث يقال لعشّاق الغِيبة: وأنتم تغتابون إخوتكم.. ها هم جثثاً ميتة، كلوا منها بقدر ما تستغيبون؛ لَمَا نَبَس أحدهم بكلمة غيبة بحياته...
هو إذاً الجزاء الغائب وليس الشاهد، هو مَن يجعل أولئك يركنون إلى متعهم ورغباتهم ركون الأعْمَهِ الغافل، أو المتلهّي المسوِّف.
يعلم أكثرهم ما أعدَّ الله تعالى للمتقين، وما هو جزاء المصرّين والمستكبرين، لكن غشيةً من الغفلة تمسك بحسِّ هؤلاء، فمنهم مَن تتداركه معيةُ الله تعالى فيتوب ويستقيم، ومنهم مَن يُترك يُمَنِّيه الشيطانُ ويسوِّف له حتى يلقى ربَّه وهو عليه ساخط، يلقى الجزاء الذي طالما استبعده؛ فلم يفقهه قلبه، ولم تُبصره عينه، ولم تسمعه أذنه، فيقع في شر ما استَبْعد: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ).
ومن هذا التصور الذي يسيطر على أذهان جُلِّ المسرفين على أنفسهم, جاء البيان الإلهي يقرِّب تلك النُّقْلَة التي يتوهمون بُعدها؛ ليفتح عيونهم على التدارك والإنابة، فقال عنه جلَّ جلاله: (اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَة مُعْرِضُونَ * مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْر مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَث إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ * لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ).
ولكي تكون تلك النُّقْلَة قريبة بَلْه قصر الحياة الدنيا والتقاء الموت جاءت عدة آيات تقصّر الجسر الممدود بين الدنيا والآخرة، وتمثل للآخرة بحُلوها ومُرِّها أمثلة للناس، فتغدو قريبة من نفوسهم وأحلامهم، من ذلك قوله تعالى حكاية عن أهل الجنة: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهاً وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) أي: أن لكم في الجنة ثماراً تشبه ثمار الدنيا.
ومثل ذلك قول الله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ) [محمد 15]. وفي ذلك تقريب حِسِّيٌّ يصف شُرب أهل الجنة، وشُرب أهل النار؛ بغية بناء الجسر بين الحياتين لتتكامل الصورة.
أضف إلى ذلك توصيفاً لشهوة النساء في قوله تعالى: (فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ * كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ) . وقد نَفَدَ هذا التصور من الغيبية إلى الحضورية.
وكانت النُّقْلَة في أقرب صورها في عهد رسول [؛ فيما ينقل أبو هُرَيْرَةَ ] قَالَ: كُنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ سمع وَجْبةً، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «تدرون ما هذا؟» قلنا: الله ورسوله أعلم، قال: «هذا حَجَرٌ رُمِيَ به في النار منذ سبعين خريفاً، فهو يهوي في النار الآن، حتى انتهى إلى قعرها» (رواه مسلم).
انظر هذا الجامع النفسي والحسّي معاً، بين مجريات الحياة الخالدة وواقع الحياة الزائلة، فيه تمزيق للحُجُب بين الدارين، حتى يُعلم كم المسافة قصيرة وكم النُّقْلَة بينهما قريبة!!..
وفي ذلك برهان لأولئك المغمورين ليلَهم ونهارَهم في متعهم، العاكفين في إسرافهم؛ لكي يَصْحوا من نوم غفلتهم، وأن يؤبوا إلى بارئهم؛ بواجف قلب وحاضر فكر، وأن يستدركوا ما فات؛ بتوبة لا تنكث، وطريق لا تزيغ...
ولهم أن يعرفوا بعد ذلك أن في خَدَر الشعور ببُعد الجزاء جوامع الحسرة والخيبة كلها.
وفي قرب النُّقْلَة كذلك باب رجاء للمتقي وعزاء للمحتسب، وأنَّ الجنة التي وُعِد بها أقرب إليه من شِراك نعله.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
كاتب في القضايا الفكرية، محاضر ومقدّم دورات في التربية، له مؤلفات ومقالات منشورة.
https://www.facebook.com/tahayassen1980
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة