كاتبة
أريده ولداً
تنهدت وهي تتطلع إلى ساعتها للمرة الخامسة .. أم السادسة .. لم تعد تذكر, ترى أين هو ؟.. لقد أخبرها حين غادر البيت أنه لن يتأخر, وها هي الساعة تجاوز العاشرة ليلاً ولما يعد بعد .
ألقت الكتاب من يدها, وقامت تتجول في أركان بيتها الصغير الذي حلمت به سنوات, وتخيلته دائماً صغيراً عابقاً بالمودة نابضاً بالدفء.
فتحت باب الحجرة الصغيرة ..أطلت فيها .. ترى هل يقيض لها أن ترى صغيرها ينام فيها ؟؟
أحست حركة الجنين في أحشائها, فلم تملك نفسها من الابتسام وربتت على بطنها بلطف كأنما تطمئنه إلى يقظتها .. آه.. ترى متى أراك يا صغيري ؟ متى تملأ علي أرجاء بيتي الخاوي وتثير سكونه؟
عادت إلى غرفة نومها, استلقت ثانية تمسك بالكتاب, لاحظت بعد فترة أنها تقرأ وتقرأ دون وعي أو فهم..فألقته ثانية وأطفأت النور في محاولة يائسة للنوم .
لم تدر متى قدم أخيراً, لكنها حين استيقظت للصلاة, رأته بجوارها وشخيره يملأ الغرفة, هزته بلطف ليؤدي صلاته, ولم تجرؤ على سؤاله عن سبب تأخره وأين كان .
في الصباح وعلى مائدة الإفطار ألقت عليه السؤال الذي ضاق به صدرها, أجاب دون أن يرفع بصره إليها : عندي عمل .
قالت برفق : أعرف ذلك .. ذكرته لي قبل خروجك, لكني أسأل لم تأخرت كل هذا ؟
رفع بصره إليها ونظرة تحدٍ تطل من عينيه : أهو تحقيق ؟؟
فوجئت بالجواب, وارتفع وجيب قلبها وصعدت حمرة الارتباك إلى وجهها, وقبل أن تتمكن من التلفظ بكلمة..قال : اسمعي يا بنت الحلال, ما زلنا في أول الطريق ويجب أن تعتادي .
ارتسم التساؤل في نظراتها, فأكمل : يجب أن تعتادي طريقة حياتي, أخرج أدخل أسافر أتأخر .. أنا لا ألعب .. وهذا عملي .
غصت بريقها, وأرغمت نفسها على الصمت, فما فائدة النقاش الآن وهو يتحدث بهذه الطريقة؟
أكمل إفطاره, وحمل حقيبته واتجه نحو الباب, وقبل أن يجاوزه هتف بها: قد أتأخر على الغداء فلا تنتظريني .
وما إن أغلق الباب حتى تراخت قبضتها المتشنجة فوق مفرش المائدة, وسالت دموعها ببطء تطفئ لهيب الصدر.. وأنى لها ذلك ؟ ترى أين الخطأ ؟؟ أين الخطأ ؟؟
منذ شهور قاربت السنة, وهي تحاول أن تكتشف مكمن الخطأ في زواجهما دون جدوى, في ذهنها تدور كلمات الصديقات والقريبات اللاتي سبقنها إلى الزواج..
دائماً العام الأول من الزواج شاق صعب على الزوجين
دعي لنفسك وله فرصة التكيف مع الحياة الجديدة
لا تناقشيه وهو غاضب.. لا تتحديه , الرجل لا يقبل التحدي ولا يرضى به
على المرأة أن تنحني أمام العاصفة لتمر بسلام
وحار السؤال في ذهنها.. أمعركة هي ؟؟ ميدان حرب ذلك الذي دخلته بملء إرادتها؟؟
وأين هو مما تخيلته مقراً للسكينة والمودة والتفاهم ؟؟
لو أنه يتيح لها فقط الفرصة لتطلعه عما يدور في صدرها من آمال مشرقة للغد, تخبره عما يكنه قلبها من لوحات مضيئة للمستقبل, لكنها كلما حاولت فتح باب للأمل.. أغلقه بقسوة وهو يردد : مشغول.. عندي عمل .. ومتى كان العمل أهم من الحياة ؟؟
في المساء عاد مبكراً.. فرحت بعودته وبدا ذلك واضحاً في ترحيبها به وتصرفاتها التي قابلها بشيء من الفتور, لكنها لم تبال وهرعت تعد مائدة العشاء, وتدعوه إليها متلهفة إلى كسر حاجز الصمت الذي يجثم فوق صدرها ويعيق سعادتها .. تناول طعامه صامتاً, هتفت بود : هل أعجبك الطعام ؟
هز رأسه بالإيجاب دون كلمة ما, قالت : تمنيت لو كنت ذقته طازجاً عند الغداء ..
تطلع إليها قائلاً : أفهم من هذا أنك تعاتبينني على عدم حضوري ظهراً ؟؟
سارعت تقول وقد خشيت فوات الفرصة : لا .. لكني قلقت عليك, خاصة وأنك لم تتصل و..
قاطعها: ولم القلق ؟ أنا رجل ولست طفلاً بحاجة لمن يرعاه, كم مرة يجب أن أذكرك بهذا..
قاومت : ولكن هذا لا يمنع أن أقلق عليك و..
قاطعها ثانية : أرجوك اعتادي ألا تقلقي, مرة ثانية أقول أنا كبير بما يكفي لئلا تقلقي علي .
صمتت والكلمات تحرق صدرها وتتدافع للخروج, وراجعت في ذهنها عبارات الأم والصديقة والقريبة.. ترى أمن المناسب أن أفاتحه بما في نفسي؟ أم سأكون مثال الزوجة النكدة لو فعلت ؟؟
تنهدت بلا وعي .. لتفاجأ به يقول بحدة : خيراً إن شاء الله .. ألم يعجبك كلامي ؟؟
اتسعت عيناها دهشة, هي معركة إذن .. بالتأكيد هي معركة, وانطلق السؤال من فمها لا تملك له دفعاً : ماذا بك .. أتمتحن صبري ؟؟
هتف : ماذا تقصدين ؟
وبانفعال أجابت : قصدي واضح.. منذ تزوجنا وأنت لا تدع لي فرصة للكلام.. أحاول أن أصارحك بما في نفسي .. فكري.. أن أعرف ما يعتمل في داخلك .. وأنت تتهرب
علق ساخراً : أتهرب ؟؟ من ماذا ؟ وهل قصرت في حقك بشيء حتى أتهرب؟؟
وتدافعت كلماتها تنفس عن مرجل يغلي : أجل تتهرب.. وتقصيرك واضح وما عدت أحتمل أكثر, حين تتركني وأنا عروس أيام لا أزال للقاء عمل قصير, فيستغرق نهارك كله دون كلمة أو خبر أنت مقصر.. وحين تعدني بالرجوع مبكراً ثم تتأخر إلى منتصف الليل ولا تكلف نفسك عناء الاتصال أو الاعتذار فأنت مقصر, وحين لا تسمح لي بإبداء رأي أو ملاحظة ما على أسلوب حياتنا فأنت ..
صاح غاضباً : كفى .. ما هذه الفلسفة الفارغة ؟؟
وعلا صوتها : فارغة ؟ قد تكون فارغة.. لكنها اهتماماتي أنا, فتحامل على نفسك قليلاً لأجلي
قاطعها : واهتماماتي أنا , وعملي, وجودي كرجل ؟؟
هتفت مستعطفة : والله أريدك رجلاً ولا كل الرجال, أفخر به أمام الناس جميعاً.. بل أمام الكون كله, اليوم وغداً ومستقبلاً, رجلاً يملأ قلبي وعقلي وكل تفكيري, ولكن كيف؟؟ وأنت تسد علي الطرق فتجعل كل سؤال تحقيقاً وتتخيل كل حوار معركة ؟
يا ابن الحلال .. مع من أتحدث .. أنا بحاجة إلى الحديث معك, إلى مصارحتك بما في نفسي..إلى معرفة ما في نفسك .. أيام قليلة وتصبح أباً لطفلي, أباً ما زلت أجهل عنه الكثير, لا أعرف كيف تفكر ولا بم ؟ وكل ما أرجوه أن تكون معي كما أنا معك صفحة مفتوحة تسهل قراءتها ..
ردد بضيق : عدنا إلى الفلسفة
ارتفع صوتها : ليست فلسفة.. إنها أنا .. مشاعري, أفكاري.. أنت تخرج, تختلط بالناس, لا تشعر بمرور الوقت .. وأنا هنا حبيسة جدران أربعة, تأكلني هواجسي .. تقتات أحلامي
قاطعها : تعرفين رأيي بعمل المرأة
هتفت : لست أطلب العمل .. أريد شيئاً من وقتك لي
تنهد قائلاً : سأفرغ لك يوماً.. فقط أريد الصبر
قالت : وأنا من يصبرني ؟ وإلى متى ؟ إلى أن تنتهي كل أحلامك وطموحاتك ؟ ما الذي يمنع أن تبني مستقبلك وحياتنا في وقت واحد ؟ أن نتشارك في صنعها ؟؟
أجاب : غداً يملأ الصغير كل وقتك, فلا تجدين وقتاً للشكوى
همست : شكوى ؟ ولكني لا أريد ذلك, أريد أن نوازن حياتنا, حين يصبح الطفل كل حياتي سأبتعد عنك, وسيكبر هو أيضاً بعيداً عنك, ولن تكون لنا سوى المعيل.. وعندما تفرغ لن تجدنا, ستكون الهوة قد فغرت فاهاً كبيراً بيننا, لن تردمه حينها ولا بآلاف الأطنان من الحب والاهتمام
نهض مسرعاً : ها قد عدنا إلى الفلسفة
هتفت بيأس : لا فائدة
رد متهكماً : أجل لا فائدة.. أمرك لله, نصيبك هكذا أن تتزوجي من لا يقدرك ولا يفهمك
همست وقد التمعت الدموع في عينيها : أرجوك
استدار إلى غرفته وتركها جامدة متصلبة, فراغ هائل يلفها ويملأ قلبها..ترنو إلى لا شيء, وقد علقت الدموع بين أهدابها, فما من داعٍ للبكاء .
تحرك الجنين في أحشائها, وبحركة لا إرادية التفت ذراعاها حوله كأنها تحميه, وفكرت .. ستكون أنت دنياي, كل دنياي يا ولدي .. ورجت من أعماقها أن يكون ولداً لا أنثى !!
فقط حتى لا تحيا في زمن صادر الرجل فيه كل شيء .. حتى الأمنيات .
المصدر : صفحة حروف تلوّن الحياة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة