الجـــيـــران.. غرباء.. وعلاقة في مهب النسيان!!
الجار.. رفيق الأفراح والأحزان، حاضرٌ رغم شحة المسرَّات ، والأخ البعيد الذي لم تلده أمهاتنا ، والغريب الذي أصبح قريباً من أرواحنا .. والشريك الذي نرى عبره ماضينا وحاضرنا .. إنه الإنسان الذي أوصانا به رسول أمتنا خيراً ، نديم أسمارنا ، ووليف انتصاراتنا ، ومّنْ لا يغفل عن مواساتنا حين نخفق في الوصول ..
من منا يستطيع الاستغناء عن جاره أو تجاهل وجوده إلى جواره بشكل دائم أو مؤقت ؟! .. لا أحد منا يستطيع ذلك ، ونحن أمة الجوار والسلام والمؤاخاة ، بل إن ديننا الحنيف أمرنا بالإحسان إلى الجار في أحاديث كثيرة منها على سبيل المثال قوله "صلى الله عليه وسلم" (لازال جبريل يُوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورّثه) .. وقوله أيضا (والله لا يؤمن (ثلاثاً) قالوا : من يا رسول الله ؟! قال : من لا يأمن جاره بوائقه) .. لكن ، هل هذا هو فعلاً واقع الجيران اليوم ؟ .. وإذا لم يكن الأمر كذلك فما هي الأسباب التي أدت لوجود هذه الغربة أو العزلة بين الجار وجاره ؟ وما السبيل لإعادة بناء جسور التواصل بين الجيران ؟! هذا ما سنقرؤه خلال الأسطر القادمة من هذا الاستطلاع.
خوف من التطفّل
فاطمة محمد عبدالله - موظفة -: في الحقيقة لا أحد ينكر أهمية بقاء العلاقات الإنسانية مثل الجيرة في حالة جيدة ومستمرة، لكن أؤكد أننا من الشعوب التي تفتقد للذوقيات العامة في التعامل مع الجار.. أنا مثلاً بحكم أنني موظفة وأم أيضاً أكون مضطرة في أغلب الأحيان إلى الاكتفاء بالسؤال فقط عن جاراتي ، وترك الزيارات للمناسبات العامة أو الأكثر خصوصية ، فجدولي المنزلي مليئ بالأعمال المنزلية والوظيفية ، أضف إلى هذا ساعات المذاكرة للأولاد ، ولذلك فلن يتبقى في يومي ولا حتى ساعة واحدة للزيارة ، لهذا أنا أكتفي بطرق باب جاراتي والسؤال عن حالهن بعد عودتي من العمل مباشرة ، حتى لا أترك لبعضهن ممن يفتقدن لذوقيات الزيارة فرصة لسرقة وقتي وتضييع ساعاته الثمينة في ما لا يفيد من الأقوال والأعمال ، ولأنني بطبعي أخاف تطفُّل الجيران على حياتي وعملي ، فقد جعلت لهن أوقاتاً ومناسبات محددة للزيارة يعرفنها جيداً.
ليسوا أهلاً للجيرة !
فادية عبد الحميد خطَّاب - موظفة -: منذ خمس سنوات وأنا جارة جديدة ! .. نعم ، فقبل خمس سنوات سكنت في هذه البناية ، وكنت غريبة ، لأنني قدمت من محافظة أخرى بسبب نقل وظيفتي إلى هنا ، مباشرة تعامل معي الجميع بطريقة عنصرية ، وحدثت مشاكل بين الأطفال ، كنت أتوقع أن تتعامل معها جاراتي بعقلانية كاملة ، لكن للأسف تم التعامل معي بهمجية كبيرة جداً ، ومنذ ذلك اليوم تعلمت درساً مهماً جداً ، أن "الباب الذي يأتي منه الريح غلِّقه واستريح" ! .. بعدها صرت أتعامل مع الجميع في حدود السلام عليكم وعليكم السلام فقط ، وفضَّلت أن أظل جارة جديدة وغريبة حتى هذا اليوم، بعدما وجدتهم ليسوا أهلاً للجيرة التي نشدتها .. وأضافت : هناك قسوة ، وتسرُّع في الحكم ، وعشوائية في تحديد الأولويات، فعلاقة الجيرة لها أولوية على مسألة اختلاف الأنساب ، أو العروق ، أو حتى مسألة الصراع التي تنشأ بين الأطفال ، وللأسف بعض الجيران لا يستطيعون تقدير القيمة الحقيقية للجار.
جيران زمان غير
لقمة العيش والحزبية نسفت معنى الجيرة!!
أحلام علي محمد - طالبة جامعية -: لدي وجهة نظر خاصة تجاه العلاقة التي تربط بين الجيران اليوم ، فهناك عوامل اقتصادية وأخرى سياسية تؤثر على هذه العلاقة ، فحالة اقتصادية سيئة كالتي يعيشها مجتمعنا اليوم لابد أن تجعل من لقمة العيش شغلاً شاغلاً عن سواها .. وإضافة إلى ذلك فإن تقلبات سياسية أدت إلى وجود انقسام ، بل إلى انشقاق بأبعاد (حزبية ، دينية ، فكرية) بين الناس ، مما جعلهم ينقسمون إلى فئات أو جماعات ذات خلفيات ومدلولات غير قابلة للتغيير .. من هنا نرى وجود تخلُّف فعلي في علاقة الجيرة في مجتمعنا، بسبب وجود أحكام مسبقة ، وثقافة سائدة حول موضوع الانتماء .. لدينا نزعة تعصُّب كبيرة ، ومن هنا غابت مسألة وجود الآخر ، فإما أنا أو لا أحد ! وهذه العوامل أدت إلى انكماش هذه العلاقة وتراجعها ، وأصبح كل جار متقوقع حول نفسه واحتياجاته وولائه الحزبي أو السياسي بشكل عام .
ضياع الجيرة والقيم !
عبدالله سيف العلواني - صاحب محل تجاري -: الجيرة فعلاً تغيرت في هذا الزمن ، وحقوق الجار أصبحت مهضومة مثل حقوق الإنسان بشكل عام ، أصبح الجميع متقوقعين حول أنفسهم لدرجة أنك لن تجد مَنْ يفتقدك من جيرانك إذا تغيبت إلا بعد فترة طويلة ، ولربما وجدتهم في مناسبات الرخاء أكثر من أوقات الشدة ، والسبب اندثار الكثير من القيم لدى مجتمعاتنا ، وليس حقوق الجار والجيرة فقط ، فالسلام، وآداب الزيارة ، والحفاظ على أمن ونظافة الطريق ، كلها قيم علَّمنا إياها ديننا الحنيف ، ثم هجرها الناس ، حتى أصبحت في حكم الفعل النادر.
انهيار للبنية الاجتماعية
أحمد عبد الكريم حبيش - تربوي -: في الماضي ، كان الجار هو الأخ القريب الذي لا تجمعك به صلة الرحم وإنما صلة القربى التي أوصى بها الله: (والجار الجُنب ...) وتفتُت عُرى الجيرة دليل على انهيار البنية الاجتماعية ، فالمعروف أن علاقات القربى والجوار والصحبة ومجمل العلاقات الإنسانية هي التي تشكل البنية القوية للمجتمع ، مع ما يحكمها من تشريعات أو قوانين ، وحدوث انهيار لتلك العلاقات يكون سبباً لانهيار المجتمع بأكمله ، فمن الواجب الحرص على تعهُّد الجار بالسؤال ، والعطاء ، والنصيحة ، مع ضرورة الالتزام بآداب الزيارة والعطاء والنصيحة، حتى لا يحل التنافر والفرقة محل التآخي والقربى .
الدنيا بخير
فؤاد عبد الودود الأبيض - صاحب محل تجاري -: لا أجد أن الأمر وصل إلى هذا الحد من العزلة والوحدة والإقصاء ، والأمر يعود إلى إنعدام روح المبادرة لدى الجميع عوضاً عن الانشغال بأمور الحياة اليومية أيضاً ..لكن رغم كل هذا أجد أن الدنيا بخير ، فجيراني في السوق مثلاً لا يطيب لهم الجلوس أو تناول الطعام إلا إذا كنت موجوداً بينهم ، بالرغم من أنهم أفضل حالاً مني ، كما أن جيران السكن أيضاً طيبون ومتفاعلون جداً .. وأوضح : لابد من إلقاء التحية ، وتقديم الهدية مهما كانت بسيطة ، فالمهم أن يطمئن الناس على جيرانهم خلال اليوم ولو بسؤال ، ولا يشترط التكلُّف في الزيارة ، وحمل الإنسان مالا يطيق ، إنما يكفي الاطمئنان والسلام، وتقديم حق الصلة والجوار ، ولنترك مسألة الزيارات الرسمية للجار إلى مواسم المناسبات ، حين يكون الجميع مستعداً لها .
درس في الجوار !
أحمد محمد شمسان - مغترب -: كنت في رحلة عمل خارج الوطن حين تعرضت أسرتي لحادث سير ، ولم يشأ الأهل إزعاجي بالخبر ، وقد قام الجيران بتقديم مايلزم من الرعاية والعناية بزوجتي وطفلتي ، ولمدة ستة أشهر كاملة كان الوضع عادياً جداً ، ولم أعلم بشيء إلى أن مرضت والدتي مرض الموت ، واضطررت للعودة إلى الوطن لزيارتها ، وهنا فقط عرفت ما حدث لأسرتي أثناء غيابي ، ولم أستطع أن أقدم ما يجب عليَّ تقديمه من الشكر لهؤلاء الجيران الأوفياء .. لهذا أصبحت أرى أن الجار أقرب إليَّ من الأهل ، وإلا لما كان الرسول (ص) قد قال (لازال جبريل يُوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيُورّثه) .
جارتي وكالة أنباء فضائح !!
(أم ياسر) - أم لولدين -: الجلوس في المنزل للقيام بالواجبات الأسرية، ومراجعة دروس الولدين ، ومشاهدة الفضائيات، أخرج ألف مرة من استقبال الجارات أو زيارتهن ، فلم أجنِّ منهن سوى المشاكل ووجع الرأس ، فواحدة منهن كبست على نَفَسي أكثر من شهرين زيارات يومية لا تنقطع ، وكان لا يحلو لها إلا الحديث الفاضح وكشف الأسرار (فلانة عملت مع زوجها كذا .. فلانة حنقت .. فلانة على علاقة بفلان) يعني وكالة أنباء فضائح !! وكل هذا تحمَّلتُه بضيق ، لكن أن تظل حتى أوقات متأخرة ، وبالذات لحين وصول زوجي من عمله ، لتستغل انشغالي مع الولدين، أو وجودي بالمطبخ للتقرب منه ، فهو مالم أستطع الصبر عليه ، وبالفعل تجرأت ، وطلبت منها عدم الحضور مجدداً.. وأضافت : لم تكن الأخريات أفضل منها ، فكل واحدة لديها هاجس وسلوك مشين، مما جعلني أكفر بالجيرة والجيران .
أحتاج ما يرمي به جيراني
أما أم مراد - أرملة ، وأم لثلاثة أطفال - لم تلمس التكافل والإحسان الذي أوصى به الرسول عليه الصلاة والسلام من جيرانها حيث تقول : توفى زوجي قبل عشرة أعوام ولم يُورّث لنا الا الديون ، ومن ذلك الوقت أعاني من أجل تلبية طالبات أولادي، وتوفير لقمة العيش، واضطررت للعمل كدّلالة، وأحياناً أطلب الله ، وعندما لا أستطيع توفير وجبات الطعام لأولادي ، فلا أحد من الجيران يحس بمعاناتنا ، رغم أنهم ميسورون وتجار ، لكنهم لا يُكلفون أنفسهم حتى السؤال عنّا .. وتضيف : تمر أيام أنام أنا وأولادي بلا عشاء، وجيراني يرمون ببقايا الطعام ، وهو ماكان يكفينا ويزيد، وأفكر أكثر من مرة أن أخبرهم بأني بحاجة ما يرمون به، ولكن عزة نفسي تمنعني .
حسن الجوار أمان وسلم اجتماعي
يرى الباحثون الاجتماعيون أن بقاء علاقات الجوار بحالة جيدة من شأنها أن ترفع المعنويات ، وتعزز الشعور بالانتماء، وتُحسِّن من أنماط السلوك المتبادل بين الجيران من جهة ، وبين أفراد الأسرة ذاتها أيضاً ، إذ ينعكس الأمر على مسألة السلام الداخلي الذي يتمتع به الفرد ، فحبُّ الخير ، وحسن الخلق ، والتعاون في صناعة السلم الاجتماعي يجعل الفرد أكثر ثقة بنفسه وبمَنْ حوله أيضاً ، ويمنحه دفعة قوية للتفاعل مع صعوبات الحياة بشكل أفضل .
كما يؤكد خبراء العلاقات الإنسانية في حالات الطوارئ أن وجود علاقة جوار قوية تُخفِّف كثيراً من مشاكل التمزق وانهيار المجتمعات في حال وقوع الكوارث الطبيعية أو الحروب أو النزاعات المسلحة ، مشيرين إلى أن المرأة والطفل تحديداً يدفعان ثمن تلك الكوارث بنسبة أكبر، لأنهما أضعف من ناحية القدرة على الاحتمال وسرعة التفاعل مع الحدث ، لكن وجود تماسك اجتماعي قد يجعل نسبة الضرر أخف ، ويجعلهما أقدر على مواجهة المخاوف والتحديات الناتجة عن تلك الكوارث.
ولم يختلف رأي خبراء الاجتماع عن رأي سابقيهم من الباحثين والخبراء ، حيث يرون أن علاقة الجوار شبيهة بالتماسك الأسري والانسجام الكامل بين الزوجين الذي يؤدي إلى وجود أسرة سليمة وخالية من العنف والنزاع ، لأن الأمر ذاته يحدث مع مجتمع متماسك ، فلا يمكن أن يترابط المجتمع من غير وجود علاقة جوار قوية ومترابطة، ومُؤمنة بوحدتها ضد أي ظاهرة لا تلائم منظومتها الأخلاقية.
المصدر : مجلة الأسرة والتنمية
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن