كاتبة سوريّة وإعلامية، في مصر، مشرفة على موقع (إنسان جديد)
ليكون الصبح أقرب
كتب بواسطة سهير أومري
التاريخ:
فى : المقالات العامة
2596 مشاهدة
على ضفاف النَّفْس يبقى كلٌّ منَّا في حياته واقفاً يسبر أغوارها، ويكتشف مجاهلها، يرحل في عوالمها، يغوص في تفاصيلها، نفسه التي بين جنبيه ترافقه منذ خروجه من رحم أمه إلى أن يأوي إلى رحم الأرض، وكلما ازداد بها علماً اكتشف كماً من العلم ينقصه ليمحوَ أُمِّيَّته في طرائق تزكيتها وردِّها إلى جادة الصواب، والارتقاء بها من النَّفْس الأمَّارة بالسوء إلى النَّفْس اللَّوامة، وصولاً إلى النَّفْس المطمئنَّة الجديرة بأن تَرجع إلى ربها يوم ميعادها راضيةً مرضية، فتدخل بصاحبها الجنة.
وفي رحلة الجهاد الأكبر في تزكية كلٍّ منَّا لنفسه؛ ترافقنا تلك الكلمة التي كانت وما زالت ناقوساً يطرق أسماعنا وصولاً إلى ضمائرنا؛ إنَّها كلمة (يجب)!!
"يجب" أن نكون أفضل، "يجب" أن نقلع عن الخطأ، "يجب" ألَّا نقرَب الحرام، "يجب" أن نؤوب إلى الله عند كل ذنب. ولكن مع هذه اللوازم التي نعلم أنَّه (يجب) علينا القيام بها أو الإقلاع عنها؛ كثيراً ما نجد أنفسنا عاجزين نسأل (كيف)، "كيف" نقوم بكلِّ ذلك؟ هل من خارطة طريق تأخذ بأيدينا من حالنا التي نحن عليها لِمَا يجب عليه أن نكون؟ وهل هذه الخارطة بمثابة الدليل الثابت لكلِّ البَشر؟
بالرجوع إلى كتاب الله تعالى نجد أنه سبحانه يبشِّرنا بالجنة مرغِّباً لنا في الصلاح، وينذرنا من النار مخوِّفاً لنا من التردي في مهاوي الضَّلال، يدعونا للتوبة ويحدِّثنا عن التغيير، يعزِّز لدينا الحافز، ويكوِّن لنا القناعة؛ دون أن يعطينا خطوات تفصيلية لمسيرة الإصلاح المطالَبين بها، فلله طرائق بعدد أنفاس الخلائق، وما يصلح لأحدنا من أساليب لترويض نفسه ربما لا يصلح لغيره... ولكنَّه في الوقت نفسه يوقد لنا بعض الإضاءات التي تمثِّل خطوات سلوكية مُهمَّة على طريق إصلاح النفس وتهذيبها. من هذه الإضاءات ما أشار إليه سبحانه في قصة يوسف عليه السلام وامرأة العزيز؛ عندما دعا يوسف ربه: (قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ).
فاختار أن يبتعد عن موطن الفتنة، ولو كان البديل دخول السجن، اختار ترْكَ المكان بكلِّ ما فيه من أشخاص، اختار أن يقطع كلَّ الأسباب والمقدمات التي يُمكن أن تُوقِع به، ذلك لأنه أحسن قراءة نفسه، وعرف ما لهذه الفتنة من قوة وقدرة على الوقوع في أتونها، عرف أن سُبل التجاهل أو إدارة الظهر لن تجدي، فلن ينفع البقاء في المكان نفسه والتعامل مع النسوة أنفسهنَّ، لن ينفع أن يبقى على مقربة من امرأة العزيز يراها وتراه، تأمره وينفِّذ، تراقبه وهو يروح ويجيء، لن ينفع أن يبقى قرب النار يمدُّ يده نحوها، ويتجوَّل حول حِماها، الأمر الذي كثيراً ما نفعله، عندما نُقنع أنفسنا أننا أقوياء، وأننا لن نقع، وأننا وإن بقينا في مرمى الفتنة إلَّا أننا لن نسمح لها أن تنال منا، سنبقى نمتلك زمام أنفسنا، ونرجع متى شِئنا، لقد اختار يوسف القطع والبتر، اختار البُعد، وتتكرَّر هذه الإضاءة في قوله سبحانه عن لوط وقومه عندما خرجوا مبتعدين عن قريتهم التي كان أهلها يعملون الفاحشة: (قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ)
يقول الدكتور أحمد خيري العمري في كتابه (القرآن لفجر آخر) عن قوله سبحانه: (ولا يلتفت منكم أحد): "الأمر هنا لا يعني مجرد عدم الالتفات بالنظر، الأمر هنا هو أشبه بقطع الصلة مع الماضي كله، الأمر هو إحداث قطيعة جذرية وحاسمة مع كل ما يتعلق بهذا الماضي، بهذا الليل، الأمر هو أن تقطع هذا الليل تماماً، تقطعه وأنت تسير قطعاً من الليل، باتجاه الصبح" انتهى.
(لا يلتفت منكم أحد) (السجن أحبُّ إليَّ مما يدعونني إليه) إشارتان منه سبحانه لواحدة من أهمِّ استراتيجيات التغيير وتزكية النفس، تلك التي تقول لنا: من الأخطاء ما لا ينفع معه التجاهل، ولا الاحتفاظ منه بلحن أو صورة أو ذكرى؛ بل يتطلَّب الهروب، فكلُّ هروب ذميم إلا هروبنا من مواطن الفتن، مهما كان طريق الهروب صعباً، مهما كان مظلماً، فالصبح ليس بقريب إلا لمن قام وسار قاطعاً حُجب الليل حتى يصل إليه.
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن