متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
المناسبات... بين الواقع والدلالات
عند كلِّ مناسبة _ وما أكثرها اليوم _ تتضاعف بطاقات التَّهنئة وتتكاثر.. ويسارع كلُّ طرف في صفحته أو في موقعه إلى اختيار أحسن صورة وانتقاء أفضل كلمة.. ويرسل بعضهم رسالة نصيَّة عبر الهاتف.. لفَتَات جميلة لا شكّ.. وأفضل تهنئة تلك الَّتي تؤكِّد التَّواصل وتنمِّي أواصر الحبِّ، وتجعلنا حقيقةً كالجسد الواحد..
أمَّا أن يصل بنا الحال إلى أن نستثقل التَّهنئة الشَّفويَّة ونستبدلها بتبادل البطاقات والرَّسائل النَّصِّيَّة حتَّى بين الجيران والأقارب؛ فهذا لن يعوِّض أبداً اللِّقاء المباشر الحسِّيَّ، ولن ينمِّي العلاقات..
ثمَّ كثيراً ما يُقتصر في المناسبات على الشُّرب والرَّقص والغناء وارتكاب الفواحش والتَّحلُّل من كلِّ القِيم والأخلاق والإسراف في إنفاق الأموال.. والمستفيد من الاحتفال أصحاب الشَّركات والمصالح التِّجاريَّة الَّتي لا تتوانى في ابتداع المناسبات لتضاعف أرباحها.. ما قيمة كلِّ هذا والعلاقات بين البلاد المختلفة، وفي المجتمع الواحد، بل في الأُسرة الواحدة تكشف عن تناحر وغضِّ الطَّرف عن حقِّ الآخر..
يعيش العالَم اليوم حروباً ضارية، منها المسلَّح ومنها ما يسمَّى "بالحرب الباردة"، وتبرز معالِم الفقر المدقع والظُّلم.. وتشرَّد أُسر.. ويقتَّل أطفال.. ويسود قانون الاعتداء، وينمَّق له القول في وسائل الإعلام ليبدو سعياً نحو العدل، هذه الَّتي لا يكاد يُتحدَّث فيها عمَّا تمارسه الدُّول من إرهاب.. ويصفِّق الجميع لظواهر الأشياء.. وتُغمَض الأعين عن الحقائق.. أخيراً أُسدل علم تونس في العاصمة الفرنسيَّة على برج إيفل، أيكفي هذا لتكون فرنسا متعاطفة تعاطفاً فعَّالاً مع الصُّعوبات الَّتي يعيشها البلد؟!.. إن كانت المظاهر الجميلة لا تتناسق مع حقيقة العلاقات بين البلدَين فسينحسر هذا الجمال ويفقد كلَّ قيمة.. وهل استقبال وفود اللَّاجئين السُّوريِّين وتشجيع إخراجهم من بلدهم هو المساعدة المُثلى الَّتي تحتاجها سوريا اليوم؛ دون الوقفة الصَّارمة ضدَّ الإرهاب الَّذي تمارسه السُّلطة الحاكمة فيها، أو الَّذي يسعى إليه غيرها ممَّن اشتُريت ذمَّته..؟!
كيف يغرق الإنسان في عصيان الله فيقسو قلبه ويعتدي، ثمَّ يفرح أو يبرز معالم الفرح؟!.. بل كيف يرتكب المسلم ما يثير غضبه سبحانه في مناسبات لا علاقة لها بأصول دينه، ثمَّ يتمنَّى على الله الأماني؟!
ليس لنا أن نكون إمَّعة نفعل ما يفعله الآخرون دون بصيرة، فنخلط بين النَّبيل والخبيث من الأهداف، ونهتمَّ بالمظهر الَّذي لا يعكس جوهراً جميلاً..
لقد فضَّل الله أوقاتاً من الزَّمن على غيرها، لتُذكِّر الإنسان بالخير وتحفِّزه على مضاعفته، جعلَها محطَّات لشحن إيمانه وتجديد عزيمته، وليستريح فيها، فتسمو روحه وتَتوق إلى العمل الصَّالح، يقول صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ لِرَبِّكُمْ فِي أَيَّامِ دَهْرِكُمْ نَفَحَاتٍ، فَتَعَرَّضُوا لها، لَعَلَّ أَنْ يُصِيبَهُ مِنْهَا نَفْحَةٌ، لا يَشْقَى بَعْدَهَا أَبَدًا». (مجمع الزّوائد).
وسنَّ لنا عليه الصلاة والسَّلام كيفيَّة الاستفادة من المناسبات الفاضلة، منها ما يتكرَّر كلَّ يوم؛ كساعات السَّحَر، ومنها ما يتكرَّر كلَّ أسبوع؛ كيوم الجمعة، وهو مناسبة للاجتماع والألفة، ورمضان أفضل الشُّهور مدرسة للصَّبر يكثر فيه العطاء للمعوزين.. ومنها ما يعود كلَّ سنة كالعيدين، وهما جزاء لعمل صالح قدَّمناه وجهد وإنتاج، وذكرى لمواقف طيِّبة نتأسَّى بها، فتحقّ لنا الغبطة فيهما.
ومن المناسبات ما هو عامٌّ كرأس السَّنة الهجريَّة الَّتي تذكِّرنا بهجرته صلى الله عليه وسلم من مكَّة مقرِّ بيت الله الحرام، إذ ترك الوطن والأهل حين ضاقت منافذ الدَّعوة، ولم يتعلَّق بوطنيَّة على حساب مبادئ الإيمان وواجب بثِّ النُّور.
ومنها ذكرى مولد الرَّسول صلى الله عليه وسلم.. وقد نهى عليه الصَّلاة والسَّلام عن تعظيمه كما عظَّم اليهود والنَّصارى أنبياءهم، إلَّا أنَّ الابتهاج بظهور النُّور مع ولادته صلى الله عليه وسلم يطوِّق النُّفوس فتشتاق إلى الاحتفال، فلها أوَّلاً أن تجعل من ذكرى هذا اليوم دافعاً للاقتداء بجميل صنائعه صلى الله عليه وسلم..
ومنها مناسبة الإسراء والمعراج الَّتي تملؤنا شعوراً بعظمة الله والتَّصديق بآياته سبحانه، هي هديَّة من الله بعد تضرُّعٍ في محن أثمرت نفحات الصَّلاة المهداة إلى المؤمن خمس مرَّات في اليوم.. بهذه الذِّكرى تنشرح قلوبنا للعمل النَّافع سعياً لآخرتنا..
المستجدُّ من الأيَّام ما هو إلَّا وقت مقبل ينتظر منَّا إحسان استخدامه لما فيه خير الإنسان وتجديد العهد مع الله.. فنحبُّ للآخر ما نحبُّه لأنفسنا، فيعرف السُّرور طريقاً إلى قلوبنا، وتنعكس البهجة على مُحيَّانا ونهلِّل ونكبِّر، ونُقبل على موائد كرم الرَّحمن، ولا نتجاوز حدوده سبحانه حتَّى ونحن نحتفل..
المصدر : مجلّة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة