خلق الإنسان عجولا
منذ ما يقارب العشر سنوات وبعد انتهائي من دراسة الهندسة الطبية في لبنان, حصلت على منحة من السفارة الفرنسية لإكمال الماجستير في فرنسا
وهي منحة كانت مخصصة لفلسطيني لبنان الذي يدرسون الفرنسية -غالبا ليس لتميزي ولكن العدد كان قليل جدا-.
بعد انهاء جميع الاوراق قمت بتقديم طلب الفيزا قبل زملائي اللبنانيين بفترة. وبعد تقديمهم للطلبات بوقت قصير حصل جميع الزملاء على الفيزا باستثنائي
مرت ثلاثه أسابيع, أربعة ثم خمسة… بدأت الدراسة في الماجستير الذي كنت أنوي الذهاب اليه
وبدأ معها الأمل يتفلت شيئا فشيئا والقلق من الغد يكبر ايضا
مرت ستة أسابيع وعند الإتصال بالسفارة كان الرد أن الفيزا ستكون شبه مستحيلة نظرا لأحداث ما عرفت بنهر البارد في وقتها (أحداث بين الجيش اللبناني ومسلحين في مخيم نهر البادر للاجئين الفلسطينيين) وأنه تم تجميد الفيز لجميع الفلسطينيين
كان وقع ذلك صعبا بلا شك لا سيما مع المعاناة التي مرت للوصول الى هنا وعلى فتحة الأمل التي تشققت بين ركام الواقع
بعد اكمال الشهرين من الانتظار فقدت الأمل تماما, وبدأت البحث عن عمل وحصلت على عمل بمعاش مريح لكن بدون رغبة, لم يكن قد أتى الجواب بالرفض بعد لكن كل شيء كان يشير الى ذلك
علمت ايضا في وقتها أن المشروع الذي كنت أذهب للعمل عليه قد أخذه زميل آخر لأني تأخرت شهرين عن الموعد المحدد ببدأ المشروع
مرت تسعة أسابيع, وكانت جميع الأفكار التي تجمع بين النقمة على الواقع وعلى الهوية والحسرة على طرف الأمل الذي لم يكاد يكتمل تتبادر الى ذهني
كنت حينها لا أرى من الصورة غير هذه النافذة الصغيرة وكما عادة كل واحد منا دوما نعتقد أن الحياة ستتوقف عند هذا الحدّ وأنها ستكون مستحيلة ان لم يحصل...
------
هذا ما كان يحدث هنا على الأرض وكل ما يمكن لي أن أراه أنا من موقعي
لكن في السماء كانت حسابات الأمور مغايرة جدا وكان هناك خطط أخرى يتم تدبّيرها
ففي الأسبوع العاشر جاءني اتصال من السفارة الفرنسية يقول بأنني حصلت على الفيزا بتدخل شخصي من القنصل الذي توسط لنا نحن الذين حصلنا على منحتهم، كان عليي ان الملم اشيائي بسرعة وانطلق...
عند وصولي لفرنسا أكدوا لي أن المشروع قد أخذه شخص آخر وأنه ليس هناك مشروع لأعمل عليه ولكن! هناك مشروع بدأ للتو مع دولة اسمها أيسلندا (لم أكن اعرف حقا وقتها اين تقع على الخريطة) ويمكنني الإلتحاق به فورا وطبعا قبلت كالغريق الذي يتعلق بقشة…
النتيجة أن الموضوع الأول لم يؤدي الى شيء ولم يكمل الى مشروع دكتوراه والمشروع الثاني كان نقطة تحول لي في كل شيء في حياتي على الصعيدين الشخصي والمهني
والمدهش بعد رؤية الصورة من الأمام الى الخلف تبين أن هذا التأخير -البشع جدا في وقته- كان فيه كل هذا الكم الهائل من الخير الذي استمر حتى الآن ولأعوام كثيرة قادمة فلو حصلت على الفيزا في الوقت الطبيعي لكانت الأمور مختلفة كل الاختلاف مع ما هي عليه الآن (بشكل أسوأ حتما)
وبقي السؤال كيف يكون كل هذا الخير مختبأ في تأخير؟!
------
كل ذلك حصل ليقول لي -ولمن يقرأ- أن القلق المرَضي المستمر من الغد لن يغير في الغد شيئا ( شبهه احدهم بأن تقوم بحل مسألة رياضيات معقدة بمضغ علكة)
وهو أصلا لا يليق بالمؤمنين
وأن كثيرا من الامور التي نراها شرا وتأخيرا هي عند الله ضمن حلقة التدبير للصورة الكاملة التي لا نراها
وأنه سبحانه لا مكان عنده للصدف والعشوائية
وأن كل شي بقدَر
وكما قال لي صديق ان هذه ال algorithms التي تعمل بها قوانين الخالق لا يمكن لعقلنا أن يتخيلها او يفهمها ولكننا على يقين انها عادلة ودقيقة
وأن مفترقات الطرق هذه التي نمرّ بها دوما في الحياة والتي يمكن أن تقلب حياتنا رأسا على عقب
لا ينفع معها بعد عمل كل الممكن الا دعاءه صلى الله عليه وسلم: "اللهم إنك تعلم ولا أعلم وتقدر ولا أقدر…"
ولكن (خلق الإنسان عجولا)...
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة