لا عزاء عند الفراق
لم تعلم ماذا تفعل، عِندما وصلها الخبر فجأة وهي في السّوق.. جثت على ركبتيها وضمّت طفلتها إلى صدرها وقالت بصمت "جدّو راح يا ماما". جلست في بيت العزاء تستقبل الأعزّاء، يخبرونها أنّه كان قد كَبُرَ وأنّ الله أراحه من تعبه، وأن للإنسان عمرًا وينقضي.. كلّ هذه التّفاصيل التّي نستعدّ جميعًا لسماعها في يومٍ ما، نحفظها ونعلم جيّدًا أنّها ستُحكى لنا مثل شريط التّسجيل الذي يعيد نفسه حتّى يفقد معناه وطعمه.
سألَتْها صديقتها "كم كان عمره؟" فأجابَت "٧٥ عامًا".. فتنهدت الصّديقة وقالت "اها كاين كبير، الله يرحمه". خرجت هنا الملكومة بألم الفراق من الغرفة قبل أن تنخنق، وقفت في الخارج على الطّرف الآخر من الشّارع أمام منزلها تراقب النّاس يدخلون بلباسهم الأسود الأنيق بيتها ثمّ قالت "كيف أخبرهم أنّ من قبّلته على جيبنه ظهر اليوم لم يكن رجلًا في الـ٧٥ من عمره؟.. كان أبي الثّلاثيني البَطَل.
كيف أخبرهم أنّه الذي حملني إلى سريري كل مساء، أنّه من علّمني القيادة من غير علم أمّي؟ كيف سأخبرهم أنّني قبّلت جبينًا خاليًا من التّجاعيد، جبينًا اعتدت على تقبيله كلّ عيد؟ لم يتغيّر ملمسه.. ولا رائحته.
كيف أخبرهم أنني فقدت اليوم والدي، ولم أفقد رجلًا عجوزًا؟ أنني فقدت اليوم سنين مليئة بالسّعادة وليس رجلاً خطفه المرض؟ فقدت الرّجل الذي أوصلني في يوم زفافي إلى زوجي وبكى سرًّا في غرفتي الخالية، الرّجل الذي همس في أذن ابنتي عند ولادتها "جدّو بدي تكوني مثل امّك بس تكبري"..
الرّجل الذي كان يحضنني وقت غضبي ويقول لي "صرخي ولا كإنو في حد غيرك بالعالم". فقدت اليوم أبي، لم أفقد رجلاً عجوزًا شعره شاب ووجه تجعّد، فقدت شابًّا طويلاً عريض المنكبين شجيّ الصّوت والهامة، كانت تكفيني أكتافه لأشعر أنّني في الجنّة.
يقولون "مش مشكلة، الله يرحمه خلّيكي قويّة"، كيف سأشرح لهم أنّ لحظة فقدك يا أبي هي اللّحظة الوحيدة التي يجب أن نضعف أمامها تمامًا. يجب أن نبكي ونخرج فيها عن صمتنا ونصرخ، نصرخ وكأنّنا لوحدنا في هذا العالم.
يفقد شاب خطيبته فيقولون "الله ستر ما كنتوا متزوجين ما لحقتوا تتعودوا على بعض".. أتعلمون الحسرة؟ حبّ دام سنين. أحلام وأفكار وخطط. ما هي الحسرة في قلب ذلك الشّاب الذي كان سيَدهن بيته الجديد غدًا؟ البيت الذي اختار ألوان جدرانه مع تلك الفتاة التي يُصلّى الآن عليها في المسجد؟ سيرى البيتَ سجنًا..
وفي اللّحظة التي يقرر فيها خلع خاتمه عن إصبعه، يودّع الماضي المخطوف، بالله عليكم أيّ جُملة ستهوِّن عليه جزع الدّقيقة تلك؟
أو أمّ تفقد طفلها "لساتو صغير لو كان شابا كانت أصعب"... أصعب؟ هذا الطّفل أخبر والدته أنّه يريد أن يكون طبيبًا، حتّى يساعدها عندما تكبر. لم يَكُن يدري أنّه بتلك الجملة حَكَمَ عليها بالموت القاتم كلّما زارت طبيبا، وكلّما أخبرها طبيب "خليكِ عنّا لترتاحي" تقول أعيدوني لمنزلي حتّى لا أموت. ترى ابنها في كلّ ممر، وتحت كلّ ثيابٍ بيضاء. هذا الصّغير كان يوقظها صباحًا ليلعب، هل تعلمون ما هو البيت بدون طفله؟ كيف يكون؟ وحشته، بروده، رائحته الدّاكنة؟ أمّا يوم ميلاده.. ذلك هو اليوم الذي يعجز أمامه كلّ الكلام.
وامرأة فقدت زوجها، وارتمت في سرير ابنتها طفلة من جديد. عندما يكون هناك حُب، لا يكون للحُب عمر. فقدت المرأة عشيق يومها وصباحاتها، حُبّها السّري في شبابها، كاتِب رسائلها الورقيّة، أصبحت غرفتها كابوسا بعد أن كان محطّ رحل أحلامِها وآمالها معه. "مش اتفقنا نكبر سوا ونعجّز سوا؟ ليش تركتني.. لسّاتنا صغار". ستكره طعم القهوة التي شربتها معه طوال الأعوام الماضية. لن يُغنيها كل الكلام عن جملته المعتادة كلّ صباح "ليش قهوتك دايما بدون سكّر، بس حلوة؟ مين الحلو اللّي عملها؟".
كانت تعلم أنّهم يواسونها، يرددون في مسامعها كلمات الصّبر والاحتساب والقوّة، ولكنّها أرادت أن تكون ضعيفة. دخلت غرفة العزاء من جديد، وجلست بجانب والدتها وأمسكت يدها، وهي موقنة أنها هي ووالدتها فقط تتشاطران الألم، وهما فقط من تعرفان أنّ من رحل كان الحُبّ بذاته وفي شبابه، لم يكن أبدًا رجلًا كبيرًا قضت عليه تجاعيد عمره..
همست في أذن والدتها "ابكي يا ماما، ابكي اليوم كإنو ما في غير وجعك بهالدّنيا".
المصدر : مدونة الجزيرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة