لماذا يضطر المثقف إلى بيع مكتبته الخاصة؟
.
"في عام 2005م قررت أن أبيع مكتبتي الخاصة التي تكونت من مجلة أطفال إلى أن أصبحت فيها آلاف الكتب، فجمعت ما فيها من كتب بعد قراءتها منذ أن كنت في الصف الرابع الابتدائي، حيث كنت أمين مكتبة المدرسة الشرقية النموذجية الابتدائية، وكان الذي اختارني لهذه المسؤولية هو معلم العربية، حيث أخذنا في درس الإنشاء نحن طلاب الصف الرابع الابتدائي إلى القاعة المخصصة لمكتبة المدرسة التي تقع في الطابق الثاني للمدرسة، وطلب منا اختيار أحد الكتب لقراءته ومن ثم كتابة مختصر له، فوقع اختياري على قصة طويلة للأطفال بعنوان "حقل البرسيم" فقمت بتلخيصها، وكنت الوحيد الذي قام بذلك، فكان هذا العمل هو الذي جعل المعلم يسمح لي بالدخول إلى المكتبة، ومن ثم لأكون مسؤولاً عنها" .
.
بهذا التذكر يروي الأديب العراقي داود سليمان الشويلي قصّته وعن مرارة بيع مكتبته إذ يسرد تيّار الوعي: "وهكذا بدأت رحلة القراءة والتثقيف الذاتي عندي وفي دار أهلي، ومن ثم في داري تكونت عندي مكتبة ضخمة تسد جدارين من غرفة الاستقبال، وكانت تتنقل معي حيث انتقلت إلى ناحية سكنتها لمدة عامين، وانتقلت أقسام منها إلى عدّة أماكن أثناء تنقّلي، وعندما استقررت في مدينتي سكنت في الدور التي أؤجرها، ومن هذا المكان بعتها".
.
ظهر قبل وبعد الشويلي من الأدباء والمثقفين من عرض على صفحات مواقع التواصل الاجتماعي إعلانات بيع مكتبته الخاصة، فهل وصل بيع المكتبات الخاصة إلى حدّ الظاهرة؟. يجيب الروائي حبيب محمود قائلاً: "لا أظنّ أن من الدقة وصف بيع المكتبات الخاصة بأنّها "ظاهرة" في أوساط المثقفين. هذا إذا اعتمدنا على التوصيف العلمي لكلمة "ظاهرة". وبالمحصّلة؛ فإن بيع المكتبة الخاصة هو آخر الحلول التي يمكن اللجوء إليها حين تُغلق الأبواب الأخرى". أما فادي عاكوم الكاتب الصحافي اللبناني فلا يعتقد: "أن بيع المثقفين لمكتباتهم الخاصة وصل إلى حد الظاهرة، بل لا تزال في نطاق ضيق، وربما ليس لعدم حاجة المثقفين المادية، بل لانخفاض قيمة الكتاب الورقي أساساً في الأسواق بعد انتشار الكتب الإلكترونية وسرقة آلاف الكتب ونشرها على الإنترنت، مع الإشارة هنا أن البعض قد يلجأ إلى بيع قسم أو بعض الكتب النادرة للحصول على بعض المال، وهذا الأمر ليس بجديد، فالكاتب المصري الكبير عباس محمود العقاد على سبيل المثال لجأ إلى بيع جزء من مكتبته شهرياً لسد حاجاته الأساسية كإيجار المنزل والطعام، كما أن كثيراً من هذه الصفقات تقام سراً، لشعور المثقف بالخجل من فعلته".
.
شيمة الشمري:- بيع المكتبة هو بيع للروح وليس للتسلية ولفت الانتباه!
.
وترى القاصة والأكاديمية شيمة الشمّري أنها وصلت إلى حذ الظاهرة إذ ترى أننا يجب أن: "نُهيب بالمسؤولين لدراسة هذه الظاهرة ومعرفة أسبابها ومحاولة الوقوف على أحوال المثقف، فمن يقدم على بيع جزء من روحه -مكتبته- حتماً لا يفعل هذا للتسلية ولفت الانتباه!. وقد قرأنا عن بعض الأدباء تصريحاً يوضح فيه سبب بيعه لمكتبته كالتقدم في السن وانتهاء مرحلة الكتابة والقراءة والبحث بالنسبة إليه، في حين هناك من هم بحاجة للكتب والاستفادة منها من جيل الشباب، وهذا حقه ولا ينكر عليه، فهو من أفنى عمره في جمعها وفرزها وحفظها ودراستها. وأرى أن هذه الظاهرة بالرغم أنها مؤلمة من جانب إلا أنها إيجابية من جانب آخر؛ فالكتب ستنجو من الإهمال والتكدس دون فائدة وستذهب إلى من يعتني بها ويستفيد منها".
.
وعند السؤال عن كيفية قراءة فعل من قام ببيع مكتبته الخاصة.. أجاب الكاتب خالد الوحيمد:- "حسب الحاجة الماسة لصاحب المكتبة الخاصة، إن كان وقع في شرك الظروف الصعبة، خاصة في وضعنا الحالي. والغريب في الأمر أن بعض المثقفين لهم باع قدير على الساحة الأدبية والفكرية نجدهم تسابقوا في بيع كتبهم أو مكتباتهم الخاصة، وهذا أمر محزن جداً فبعضهم حالته المادية ميسورة. فالكتاب يعتبر جزءاً من القارئ الحقيقي فقد يرجع له للبحث عن معلومة مثلاً لتأكيدها، وبعض أصحاب المكتبات الشخصية يعتبر الكتاب جزءاً مكوناً من كينونته الاجتماعية بل يذهب البعض أكثر من ذلك، كالعلاّمة حمد الجاسر رحمه الله في مقولته الشهيرة "إن احتراق مكتبتي أشدّ عليّ من وفاة ابني" وذلك عندما احترقت مكتبته المنزلية وتلاشت أوراقها إلى رماد".
.
أما الكاتب همدان الحيدري فيشير إلى أننا: "نعرف قيمة الكتب بمحبي العلم والاطّلاع، ومقدار ألم مثقف باع كُتبه مُضطرَّاً، شاهدنا نكسة مُثقفي وعُلماء العراق بعد الغزو الأميركي والإيراني لبلدهم عام 2003م، وكُتبهُم تُعرَض غبراء للبيع بأرصفة الرصافة ببغداد، وأغلى منها ثمناً لا جوهراً أحذية معروضة بتوابيت زُجاجية. لم أشاهد بصوفيا كُتبا تُباع على الأرصفة، رغم إنها بلد أوربي فقير عانت اقتصادياً بعد تحولها من الاقتصاد الاشتراكي لاقتصاد السوق، ولكني شاهدت الكُتب بأيدي العشرات تُقلَّب وهُم في مقاعد المترو".
.
ويضيف عاكوم بأن:- "من يقدم من المثقفين على بيع مكتبته لا شك بانه قد يقدم يوماً على بيع طفل من أطفاله أو ربما حتى جواز سفره أو جنسيته، فلولا العوز الشديد والوصول إلى شفير الجوع الحقيقي أو تخطيه بخطوات، لما أقدم أي منهم على هذه الخطوة، فكل مكتبات المثقفين مهما كانت توجهاتهم تعتبر كنوزاً مخبأة في بيوتاتهم، ولولا قلة دعم الحكومات العربية لهم وتجاهلها للخط الثقافي العام "إلا فيما ندر"، لما سمعنا عن بعض وقائع بيع المكتبات. فيا ليت مثقفي الوطن العربي يقومون بمبادرة إنشاء صندوق خاص للتدخل عند أي طارئ يواجه أحد المثقفين الشرفاء يغنيه عن بيع روحه الورقية وتلال كتبه".
.
وفي سؤالهم:- هل من الممكن أن تبيع مكتبتك في يوم من الأيام؟!. تجيب الشمري: "لا شك أن مكتبة الأديب والمثقف هي كنزه الثمين، وملاذه الآمن. هي حياة وبقعة من نور، فيها يجد نفسه واهتماماته، ينعم بها وينهل فهي الغذاء والأنس، وعند إقدامه على عرضها للبيع فلابد من وجود خلل ما، فهو إما زهد في ما لديه وهذا قد يكون نتيجة إحباطات متوالية!. أو ربما تكون الحاجة المادية دفعته إلى ذلك خاصة وأننا نسمع عن بعض الأدباء وإصابتهم بالمرض والوهن خاصة عند تقدمهم بالعمر كسائر البشر، وللأسف لا يجدون اهتماماً أو تقديراً، وفي كلتا الحالتين لا نلومهم على بيع مكتباتهم".
.
همدان الحيدري:- حرست مكتبتي كما حرست أهلي!
.
أما حبيب محمود فيؤكد أنه: "لا يمكن لمثقف أن يبيع مكتبه لسببٍ غير مادّي. الحاجة المُذلّة هي التي تفرض على المثقف أن يتخلّى عن جزءٍ منه ليسدّ به رمق كرامته، ويحفظ ماء وجهه. وإلا فإن بيع المكتبة ليس عملاً ثقافياً في ذاته، ولا ممارسة تُحمَل على شيء من ذلك. وفي بعض الدول العربية شاهدنا -أو نمت إلينا أخبار- عن عرض مثقفين كتبهم على الأرصفة، في بغداد، والقاهرة، ودمشق، وكثيرٌ منا لديهم مقتنيات من كُتب نفيسة، وطبعات أولى، لمطبوعات استحالت فلكلوراً في طباعتها، فضلاً عن مضمون محتواها العلمي أو الأدبي. لو لم تكن ثمة حاجة مُذلة؛ لما باع المثقف حصيلة سنواتٍ طويلة من عمره في رصيف هواة جمع الكتب وقرّاء الرفاهية. إذا حدث وعرض مثقفٌ ما كتبه للبيع؛ فإن هذا مؤشر خطير إلى وصول كرامة الإنسان إجمالاً -وليس المثقف وحده- إلى مستوى لا يليق بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية".
.
في حين يذكر همدان حميد الحيدري أنه سعد بكُتبٍ "اقتنيتها زهيدة ثمن من أرصفة دوُّار شارع الزعفران والسوق الطويل بالمدينة القديمة بعدن، ومِن أرصفة ميدان التحرير بصنعاء، وعند سعادتي أشعُر نسبياً بحُزن بائعها. مكتبتي بكُتُبها أثمن مادياتي، الله يحفظها ويفيدني وجموع كثيرة مِنها، حفظها الله كما حفظنا وأهالينا في الحرب الأخيرة بعد نزوحنا قسرياً بحرب مليشيات التمرُّد والعدوان على معظم البلاد وعدن، نزحنا بصُحبة ما تيسَّر مِن كتب، ونظرت لها بحنين -مُحدثاً نفسي بألم: لا أستطيع أخذك بجانب أولادي-، وودّعتها واستودعتها الله مع بيوتنا ومِمَن بقى مِن جيران. وبغيبتنا فتحت المليشيات أبواب منازلنا بالرصاص، وفتشَت المقتنيات بتعسُّف وهمجية، وبعد عودتنا وفراقها عِدّة أشهُر، وجدّنا معظم مقتنياتنا مُبعثرة بالأرض ومكتبتي سليمة، فسجدُّت لله سجدّة الشُكر، وازداد امتناني لربي وحُب كُتُبي". مضيفاً "مكتبتي وكُتبي المعروضة مِن خلف زجاجها، وضعتها قُبالة سريري لأراها قبل النوم وعند استيقاظي، وغالباً أتذكَّر صديقي الذي أهداني مكتبتي الخشبية ذات الأبواب الزجاجية، وأتذكَّر صديقي الثاني الذي أهداني كتابي المايكروبيوتك والشياتسو، وأتذكَّر أعزاء غيِّرهُم. بإذن الله لن أعيش بلا كُتب، وسيحفظها الله كما حفظ أولادي وأهلي وكُل من نعزّ".
.
ويتذكر فادي عاكوم أنه فقد مكتبته الخاصة مرتين، الأولى بسبب الحرب اللبنانية، والثانية بسبب خروجي القسري من لبنان "وفي المرتين أحسست بفقدان جزء مني، وجرح لا يزال يؤلمني إلى الآن، فلكل كتاب حكاية ولكل ورقة من هذه الكتب وقفة، تركت هذه الكتب قسراً ولم أفكر يوماً ببيع ولو ورقة من مكتبتي لارتباطي الروحي مع كل كلمة تحتل رفوفها، ولم أفكر يوماً ببيع أي من الكتب مهما كانت المغريات لاعتبارها جزءاً لا يتجزأ من حياتي اليومية وأمسي وحاضري ومستقبلي".
.
ويجيب خالد الوحيمد بأنه "يترتب على المرء مراعاة كتبه وعنايتها والنظر فيها والبحث عن مكنونها الثري وهذا يعتبر جزءاً من احترامنا للكتاب إن كنا صادقين من أجلها. حيث اتضح لدى البعض استخدام مكتبة شخصية لمجرد المباهاة والفخفخة وهذا يعد خطأ من ناحية حرمان الآخر من قراءتها، إلا في حالة كون أحد أفراد أسرته قارئا أو انبثقت به روح القراءة والإطلاع فهذا أمر حسن وجيد. وحبذا لو يهدي أصحاب تلك المكتبات المركونة للديكور محتوياتها للمكتبات العامة، كمكتبة الملك عبدالعزيز العامة بالرياض التي تستقبل جميع الإصدارات من كافة المحتويات الثقافية والفكرية. وهنا على سبيل الطرافة يقال إن أهل الأندلس سابقاً حريصون على بناء المكتبة الشخصية قبل بناء الدار لو حتى كان صاحبها غير قارئ وإنما للتباهي فقط وهم قلة في هذا الجانب، فمعلوم أن سكانها قراء نهمون".
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة