الدراما والألفاظ البذيئة
منذ أرسطو وحتّى وقتنا الحاضر يكاد يجمع النقّاد وكتّاب الدراما على أنّ العمل الفنّي الدرامي ليس مجرّد نقل للواقع و أنّ قيمة العمل الفنّي الواقعي تتحدّد بلمسات كاتبه ومخرجه ومؤدّيه على هذا الواقع لا بمجرّد تصويره حرفيّا ونقله دراميّا ، ورغم ذلك وجدنا من يسوّغ شيوع الألفاظ البذيئة والكلمات النابية في الأعمال الدراميّة "التلفزيونيّة" بأنّ ذلك انعكاس لواقع ولغة الشارع، فكيف حدث هذا وكيف نحمي بيوتنا من هذا الوباء ؟ الزميل باسل النيرب يفتح هذا الملفّ الشائك .
يقاس تطوّر المجتمعات بإبداعها الذي يعدّ من أهمّ وسائل التقدّم الحضاري والرقيّ الثقافي للفرد وللمجتمع، فالجرأة أساس الإبداع والفنّ لأنّ هدفها إثارة المتلقّي وجعله في حالة من التساؤل و القلق ، فضلا عن تحقيق المتعة.وقد تكون الجرأة إيجابيّة بمعنى جرأة في الطرح وفي المعالجة وفي اختيار الموضوع وفي الرؤية الفنّية والانتصارللقيم الإنسانيّة النبيلة، وقد تكون جرأة سلبية تتمثّل في التمرّد على كلّ القيم الإنسانيّة والأخلاقيّة والتهكّم على الدين واللغة والأخلاق والثقافة والتقاليد.
وفي الدراما العربيّة يُلاحظ أنّ الإبداع والجرأة يمضيان في الا اّجته السلبي اللاأخلاقي واللاديني واللاإنساني، وقس على هذا معظم الأفلام والأعمال الدراميّة وأغاني الكليبات التي تخاطب الغرائز الجنسيّة مستخدمة لغة الجسد الإيروتيكي لمراودة النفس السويّة مصداقاً لقوله تعالى في سورة يوسف: (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتْ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ) بل إنّ الصناعة الفنّية والإعلاميّة تُقصي كلّ فنّ يحمل رسالة وغاية إنسانيّة.
يؤكّد واقع الدراما شيوع فنّ المراودة الذي يسعون إلى إدخاله كلّ البيوت ليستبيح عفّتها ويفسد أخلاقها لتصبح بمثابة سوق النخاسة التي يتاجر به كلّ فاسد وآثم. وقد استطاعت الصناعة الفنّية اليوم باسم الواقعيّة وحرّية التعبير أن تفرض على الساحة الثقافيّة والفنّية ممنوعات محرّم الاقتراب منها أو المساس بها ،ومن أكثرها تأثيراً أن ليس للفنّ خطوط حمراء قيميّة أو ثقافيّة وأخلاقيّة فالمبدع فوق الكلّ .
هذه الفكرة أصبح الكلّ يردّدها بدون استحياء كأنّها وحي منزّل علما أنّ المبدع ابن بيئته الاجتماعيّة والثقافيّة والروحيّة مهما علا شأنه.
تجاوزات أخلاقيّة العلاقة بين الفنّ والأخلاق من المداخل المهمّة لأيّ تحليل درامي، فالعلاقة هنا وثيقة متجذّرة لا يمكن فصلها ولا ينكرها إلا جاهل بتاريخ البشريّة فكرًا وإبداعًا، والسؤال : لماذا التساهل في بثّ الكلمات النابية والألفاظ البذيئة ناهيك عن غرق الدراما العربيّة في مستنقع الإباحيّة بشكل منتظم في مشاهد من التحرّش والعلاقات غير المشروعة والملابس الفاضحة ، استمرارًا على نهج الخروج عن تقاليد المجتمع ، وإصراراً على إحداث تغيير أخلاقي سيّئ. يقول الناقد طارق الشنّاوي إنّ المشاهد الساخنة تزداد في مسلسلات رمضان بشكل هيستيري (...) بجميع المسلسلات المعروضة، إلى جانب زيادة الألفاظ الخارجة التي لا تتقبّلها الأسرة.
على مستوى الخليج العربي ارتفعت الظاهرة بشكل لافت في المسلسلات السعوديّة والخليجيّة وذلك عبر الشتائم والألفاظ البذيئة والعبارات الصلفة التي تتفوّه بها شخصيّات المسلسلات. الدراما السوريّة أخذت تدقّ باب السلبيّة بقوّة وأظهرت الخيانة الزوجيّة بأشدّ أشكالها، مصوّرة العلاقة القائمة بين الرجل وشقيقة زوجته، أو المرأة وشقيق زوجها من خلال دفع الزوجة لمعاشرة مدير العمل لتسيير شؤون عمله، أو علاقة كبار السنّ من النساء مع شباب أصغر منهم سنّا .
ومن خلال تحليل الواقع الحالي للدراما العربيّة يتب أنّها تتضمّن ألفاظا وعبارات ومشاهد لكلّ من:
•النكت الجنسيّة
•استهانة بالدين الإسلامي تلميحاً وتصريحاً
•علاقات جنسيّة محرّمة
•دعوة إلى الفاحشة وإغراء وتحرّش
•التشجيع والدعوة والتفاخر بشرب الخمر
•السبّ والشتم
لا شكّ أنّ وراء هذه الظاهرة أسبابا منها ركوب الموجة، أو البحث عن الربح المادّي، ويرى البعض أنّ السبب هو أنّ الدراما كانت مكبوتة، تعاني تشديد الرقابة على الأعمال، فجاءت هذه الظاهرة لتعيد إلى الدراما التطوّر الطبيعي لها. كما يُقال أيضاً في تبرير هذه الظاهرة أنّها جاءت تعبيرا عن تطوّر الواقع نفسه، وحسب ما يرى منظّرو هذا الا اّجته فالدراما تأخذ من لغة الشارع وتقدّم نماذج من الواقع، والمهمّ في الأمر هل هذا اللفظ أو الإيحاء في موضعه وهل له ضرورة دراميّة أم لا؟ فمثل هذه الألفاظ التي یستاء منها البعض يمكن أن نستمع إلیها بشكل یومي .
وهناك من يقول إنّ الشيء الوحید الذي قد یسبّب ضیق الأسرة من الألفاظ أو المشاهد الخارجة هو أن یكون العمل یدور حول مجتمع أساتذة الجامعة أو في مدرسة أو بنك أو معمل، بینما یتحدّث أبطاله بأسلوب لا یتناسب مع وظائفهم ، فیكون هناك انفصام بین الشخصیّة ومفردات اللغة.
هذه الحجّة كانت السبب في ارتفاع عدد الألفاظ الخادشة للحیاء في الدراما وتدنّي مستوى الحوار ، بحجّة أنّ لغة الشارع تغیّرت وأنّه من الطبیعي أن تتغیّر لغة الدارما .
وهناك من يعتقد أنّ السبب في شيوع الكلمات النابية في الدراما هو الرغبة في جذب الجمهور ، فقد أشار الناقد طارق الشنّاوي إلى أنّ (السبب الرئیسي وراء إضافة مثل هذه المشاهد في الأعمال الدرامیّة هو أنّها تسهم بشكل كبیر في جذب الجمهور، حتّى ولو كان ذلك علي حساب بعض المشاهدین الذین یرفضون مثل هذه المشاهد والألفاظ)، وينبّه الشنّاوي إلى أنّ كثیرا ممّا یمكن تقدیمه في السینما لا يجب تناوله في مسلسلات تذاع في "التلفزیون" الذي یدخل كلّ بیت، وتشاهده الأسرة كلّها وهي تعلم أنّها لن تجد ما یخدش الحیاء .
وتقول الناقدة ماجدة موریس: (مسلسلات رمضان تعمل بأسلوب سینمائي، حیث تعتمد في معظمها على العري والإثارة بصرف النظر عن الهدف أو المضمون” مشیرة إلى أنّ كثرة الأعمال وشدّة المنافسة هما السبب في لجوء القائمین على المسلسلات إلى الوصفة المعروفة من أجل جذب المشاهد، غیر أنّ انتشار دعوات المقاطعة لكلّ هذه الأعمال یؤكّد فشل الخطّة لأنّ الجزء الأكبر من الجمهور لم یعد من راغبي مشاهد الخلاعة والإسفاف) .
وهناك عامل آخر ساهم في موجة الألفاظ البذيئة والكلمات النابية التي غزت المسلسلات الدراميّة وهو دخول جيل جديد من المؤلّفين الشبّان الذين لم يجدوا حرجا من نقل لغة الشارع إلى الشاشات، ظنّا منهم أنّه سيثري الحوار ويجعله أكثر قربا للمشاهد وتعبيرا عنه، بحسب ما يرى معظمهم .
يدافع أيمن سلامة بشدّة عن الألفاظ الخادشة للحياء في الدراما مؤكّدا أنّ هذه الألفاظ والعبارات مصدرها المجتمع الذي تغيّرت لهجته وأصبحت تمتلئ بالألفاظ الفجّة غير المسبوقة من قبل، وقد انتقلت بالتالي إلى البرامج السياسيّة و "التوك شو " ولغة الحوار على الفضائيّات، إضافة إلى لغة الشباب على "فيس بوك وتويتر" التي أصبحت الشتائم فيهما عادية و "روتينيّة" في بعض الأحوال، وأضاف متسائلاً: كيف أكتب نصّاً دراميّاً من دون أن أورد هذه الحالة فيه؟، فقد وجدت أنّه من واجبي أن أورد هذه الألفاظ وإلاّ سنكون وقتها منفصلين عن الواقع وندفن رؤوسنا في الرمال، وفضّلت أن أطرح المشكلة على الناس لبيان درجة خطورتها وتفاقمها في المجتمع ولأضع الناس أمام الحقيقة المرّة .
حجّة سلامة هذه داحضة وفهمه للعلاقة بين المجتمع والدراما خاطئ بل ساذج . يقول أسامة أنور عكاشة - وهو واحد من أكبر كتّاب الدراما العربيّة - ردّا على سؤال: هل يجب أن تكون الدراما صورة عن الواقع لتكون حقيقيّة وواقعيّة؟:
(العمل الذي يتّكئ على الواقع لا قيمة له، فالكاتب الموهوب والملتزم يكون مرتبطاً بالواقع، ولكن لا ينقله نقلاً فوتوغرافيّاً لأنّ الفنّ ليس كذلك).
وتقول الكاتبة تهاني الصوابي، : الفضيلة تقع بين رذيلتين الإفراط والتفريط، وما نراه من الأعمال الدراميّة التي تعرض على الشاشة الصغيرة ينطبق عليه الشقّان الإفراط فى عبارات الشتائم والألفاظ النابية، والتفريط فى قيمنا، بعد أن خلع بعض المبدعين برقع الحياء تحت مسمّى حرّية الإبداع، فامتلأت بعض الأعمال الدراميّة بالمفردات الإباحيّة والجنسيّة الصريحة ، فحرّية الإبداع ليست في الإيحاءات الجنسيّة والألفاظ الخارجة والنابية والشتائم المتدنّية غير الأخلاقيّة ، وإ اّمن حرّية الإبداع في طرح أفكار جديدة والسموّ بالمعاني والمشاعر الجميلة، والرقيّ في الحوار بالتعبيرات اللائقة، وليست فى العبارات المتدنّية التي يتبنّاها جيل من الكتّاب الجدد أخذوا يتباهون بالإسراف في استخدام تلك الألفاظ بحجّة نقل الواقع، وقد تناسوا أنّ مهمّة الفنّ ليست فقط في نقل الواقع وإلقاء الضوء عليه بما يعيشه أحيانا من انحطاط وقاذورات ولكن في تهذيب النفوس والرقيّ بالمشاعر. فالفنّ أداة للنهوض بثقافة المجتمع و تحسین طریقة تعامل الناس فيما بينهم .
استخدام الألفاظ الخارجة و السیّئة في المسلسلات بحجّة أنّها متداولة و شائعة في الشارع لا یبرّر عرضها على "التلفزیون" ... فكلّ بیت یوجد به صندوق قمامة، وعندما یذهب ضیف إلى بیتك لن تقدّم له صندوق القمامة الذي تفوح منه الرائحة الكریهة، بل ستقدّم أفضل المشروبات ، وبهذا المنطق ینبغي أن نعامل ضیوف شاشات "التلفزیون " فلا نقدّم لهم ما یؤذي سمعهم و یخدش الحیاء.
على من تقع المسؤوليّة ؟ من يتحمّل المسؤوليّة الاجتماعيّة عن هذه الظاهرة ؟
حين نشاهد البرامج "التلفزيونيّة " التي تناقش هذه الظاهرة، تجد الممثّل يهرب من المسؤوليّة ويلقي بها على المخرج، والمخرج يلقي بالمسؤوليّة على المؤلّف أو "السيناريست" ، والقناة التي تعرض العمل تلقي بالمسؤوليّة على المنتج. يعدّ الحوار أوضح جزء في العمل الدرامي، وأقرب إلى أفئدة الجماهير وأسماعهم، فهو عنصر أساسي في مكوّنات العمل الفنّي في السينما و "التلفزيون"، والمسؤول الأوّل عن الحوار هو "السيناريست "، أو كاتب الحوار، وقد يقوم بهذا العمل مؤلّف العمل الدرامي نفسه، وقد يقوم بذلك غيره، كما يقوم بهذا العمل شخص واحد، وأحياناً تعقد ورشات عمل لكتابة الحوار الخاصّ بالعمل الدرامي. وللمخرج أيضاً دور أساسي في الحوار وكلماته، فقد يغيّر بعض العبارات، أو يقوم بحذفها أو اختصارها، وفي العادة يتدخّل المخرج في السينما والتلفزيون منذ بداية العمل، فهو الذي يختار الموضوع، وقلّما نجد اليوم المخرج الذي يفرض عليه موضوع ما، بل إنّ كثيراً من المخرجين الشباب اليوم يكتبون "سيناريوهات" أفلامهم بأنفسهم . وللممثّل أيضاً تأثير في نصّ العمل، خصوصاً إذا كان الممثّل مشهوراً، وهناك العديد من النماذج التي رفض فيها ممثّل أو ممثّلة نصّ عمل ، أو طلب تعديل النصّ. وقد يكون للمنتج، أو شركة الإنتاج نفسها دور في توجيه العمل، لأسباب تجاريّة وتسويقيّة أو غير ذلك.
وفي النهاية يمكن القول إنّ عمليّة صناعة العمل الدرامي عمليّة جماعيّة، ترتبط كلّها بالمخرج الذي يصبح بعد إتمام وضع "السيناريو" سيّد الموقف، وينتهي دور الكاتب، وهو ما دفع بعض الكتّاب الذين يرفضون أن تخضع أعمالهم لتعديلات ورؤى المخرج إلى أن يقوموا بأنفسهم بالإخراج، مثل أوليفر ستون ورأفت الميهي. ويمكن أن نقول إنّ العمل الدرامي التلفزيوني عمل جماعي، تتوزّع فيه المسؤوليّة على فريق العمل، من كاتب "السيناريو" والحوار إلى المخرج إلى الممثّل أو الممثّلة بالإضافة إلى شركة الإنتاج ، ولكنّ الانهيار الأخلاقي في الدراما يتحمّل وزره فريق العمل الفنّي بشكل أساسي وجمهور غير واع يقبل مشاهدة مثل هذه الأعمال.
المصدر : مجلة الأسرة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن