الأكل والصحة النفسية
هذا موضوع من أهمّ الموضوعات ومن أقلّها نيلا للاهتمام للأسف .. رغم أنّ الأكل من أهمّ النّشاطات الإنسانيّة وأغناها بالأبعاد الجسميّة والنّفسيّة والاجتماعيّة والدّينيّة والفلسفيّة، إلا أنّه يتحوّل للأسف إلى مجرّد عادة تلقائيّة تحرمُها من هذه الأبعاد، وتجعلُ الإنسان يخسرُ كثيرا من ممكنات هذه المعجزة العظيمة التي تحدثُ كلّ يوم: معجزة الأكل ..
وأظنّ أنّ من أهمّ أسباب عزوف النّاس عن كلام العلم والتوعية المرتبط بالأكل أنّه يصدرُ غالبا عن أناس لا يحبّون الأكل أو لا يحبّون النّاس أو كليهما .. فكثيرٌ من هذا الكلام يصدر مثلا عن نباتيّين متلبرلين يتعاملون بتعالٍ أخلاقيّ مع المخاطَبين ويُصوّرون أكلَ اللحوم كجريمة أو أكل منتجات الإلبان كإدمان .. وتصدر النّصائح أحيانا من أطبّاء يُعامِلون بعدم احترام من يُعانون من السّمنة أو من لا يهتمّون بنظامِهم الغذائيّ، أو يُهاجمون بعموميّة وبلا تدقيق أكلات شعبيّة -مثل المنسف في الأردن- تُعتبَر رموزا وطنيّة واجتماعيّة بحجّة توعية الناس صحّيّا! ..
لذا فمن الأساسيّ أن يكون الحديث التوعويّ نابعا من حبّ للموضوع والمخاطَبين معا .. لا على طريقة بعض متلبرلي اليسار الذين يريدون أن ينشروا الوعي بتربية الأطفال وهم يكرهون الإنجاب، أو بعض من يريدون تحديث الإسلام أو تجديد الخطاب الدّيني وهم لا يكنّون ودّا حقيقيّا وملموسا لا للدّين ولا المتديّنين ..
إذن، في نقاط:
1- من المهمّ جدّا قبل الحديث عن أثر الأكل على الصّحّة النفسيّة التأكيد على أنّ الأمراض النفسيّة ظواهر معقّدة للغاية يتداخل فيها البيولوجي بالسيكولوجي بالاجتماعيّ، وبالتّالي فمهما قيل عن أهمّية النّظام الغذائي في الصّحّة النفسيّة، من الخطأ الاستنتاج بأنّ حلّ الأمراض النّفسيّة كلّها أو بعضها أو أيّا منها يمكن أن يحصل اعتمادا على تغيير النّظام الغذائيّ فقط أو على وصفة غذائيّة معيّنة أو على أخذ فيتامينات أو معادن أو أملاح أو أيّ نوع من ال supplements .. هذا التأكيد مهمّ جدّا لأنّ بعض النصّابين، ومن بينهم من يُتاجِرون بالدّين والطبّ النبويّ، يروّجون لوهم مفادُه أنّ الأمراض النفسيّة مشكلة يمكن حلُّها تماما بالغذاء! ..
2- هناك إنتاج علميّ كبير يدرس ما يُعرَف ب"النظام الغذائيّ المتوسّطيّ" أو Mediterranean Diet .. وهو نظام يُشبِه جدّا النمط الغذائيّ في بلاد الشّام .. هذا النّظام غنيّ بالحبوب الكاملة والخضار والفواكه والسّمك وزيت الزيتون واللحم الأحمر، وقليل السّكريّات والدهون والأجبان المُصنّعة .. من المهمّ التأكيد على أنّ اللحم الأحمر جزء من هذا النّظام، أي أنّه ليس نظاما نباتيّا، بل ارتبط حذف اللحم منه بنسب أعلى من الاكتئاب والقلق لدى النّساء، ومن التفسيرات المحتملة أنّ اللحم غنيّ بالزنك والحديد و فيتامين B12.. هذا النّظام وجدت دراسة أنّه يُحسّن مقاييس الاكتئاب لدى المكتئبين الذين يلتزمون به مُقارنة بمن يتبنّون نظما غذائيّة أخرى .. هناك دراسة أخرى وجدت أنّ هذا النّظام من المحتمَل أن يكون له أثر وقائي من الاكتئاب لدى المُصابين بالسّكريّ ..
3- هناك مجموعة من الدّراسات التي وجدت ارتباطا إحصائيا بين نظام الغذاء المتوسّطيّ ونسب أقل من الجلطات الدماغية والاكتئاب وأمراض الخرف وفقدان القدرات الذهنيّة ..
4- أجريت دراسة نرويجيّة على 23 ألف امرأة وأطفالهنّ، بحيث جرى تتبّع النّظام الغذائيّ للأم أثناء الحمل والنّظام الغذائيّ للأطفال حتى عمر 5 سنوات، وأجريت قياسات لبعض المؤشّرات المرتبِطة بالأمراض النفسيّة مثل أعراض الاكتئاب والقلق وفرط الحركة وتشتّت الانتباه ADHD والمشكلات السلوكيّة .. وجدت الدراسة ارتباطا إحصائيّا بين نمط الغذاء الصّحيّ ونسب أقلّ من هذه الأعراض ..
5 - هناك دراسة أجريت على الفئران تمّ فيها تعريض الأمّهات للنظام الغذائيّ الغربيّ الغنيّ بالدّهون والسّكريّات، وكانت النتيجة أنّ الأبناء عانوا من ارتفاع في نشاط الجهاز العصبيّ المرتبط بالتّوتر والقلق، واستمرّ هذا الأثر حتّى البلوغ .. كذلك وُجِد أنّ نقص الأحماض الدهنيّة من فئة أوميغا-3 أثناء الحمل والنموّ المبكّر عند الفئران يؤدّي زيادة اضطرابات سلوكيّة مرتبطة بالقلق والتوتّر، وإلى نقص في قدرة الخلايا العصبيّة على التنوّع والتجدّد .. وُجِد كذلك أنّ معاناة الأمهات من مجاعة ونقص في التغذية مرتبط بزيادة نسب الاكتئاب في الأبناء ..
6 - هناك دراسات تقترح أنّ ثمّة علاقة بين النمط الغذائيّ ونموّ المنطقة بالغة الأهمّيّة في الدماغ المُسمّاة hippocampus .. هذه المنطقة مرتبطة بالمزاج والنمو الذهني والإدراكيّ والذاكرة، وهي المنطقة الوحيدة -حسب معرفتنا- التي تتجدّد فيها الخلايا العصبيّة في البالغين .. هناك دلائل علميّة تقترح أنّ نظام الأكل الغربيّ - غير الصّحّي لاحتوائه على الكثير من الدهون والسكريّات والأجبان المُصنَّعة- يؤدّي لصغر في هذه المنطقة ويؤثّر سلبا على قدرتِها على التجدّد ..
7- هناك صرعة في عالم الطبّ اسمُها Gut Brain Axis أو "محور الأمعاء-الدّماغ" .. بتبسيط شديد، هذا يعني البحث في العلاقة بين الأمعاء والأعصاب الموجودة فيها -وعددُها هائل- وبين البكتيريا المفيدة الموجودة في الأمعاء بشكل طبيعيّ، وبين الدّماغ والأمراض النّفسيّة .. في الأمعاء بكتيريا مُفيدة يفوق عددها 10 أضعاف خلايا جسم الإنسان مجتمعة .. هذه البكتيريا ونشاطُها وتفاعلُها مع الخلايا العصبيّة في الأمعاء يبدو أنّ له ارتباطا وثيقا بالأمراض النفسيّة والصّحة النّفسية .. هرمون السيروتونين الذي يبدو وثيق الصّلة بالاكتئاب يُفرَز في الأمعاء بكمّيات تفوق بأضعاف ما يُفرَز في الدّماغ منه .. تتزايد الأدلّة العلميّة على أنّ الأمعاء تؤثّر بشكل بالغ الأهمّية على الدماغ ونشاطِه وصحّتِه ..
تقترح الأبحاث أنّ الأنظمة الغذائيّة الصّحيّة تُسهم في تقليل الأمراض النّفسيّة من خلال نشاط هذه البكتيريا المفيدة، وهناك دلائل متزايدة على دور للأطعمة المتخمّرة fermented التي تُحفّز البكتيريا وتحتوي عليها مثل الألبان والمخلّلات في التقليل من الاكتئاب والقلق..
8- تبعاً للنقطة السابقة، هناك ما يُعرَف بال Probiotics وهي مستحضَرات تجاريّة يمكن الحصول عليها من دون وصفة طبّية وشراؤها من الصيدليّات أو أونلاين .. هذه المستحضَرات عبارة عن البكتيريا المُفيدة التي يحتاجُها الجسم السّليم .. الدليل العلمي على دورِها في التخفيف من أعراض الاكتئاب يتزايد وهناك حاجة لمزيد من الدراسات في هذا المجال ..
9- عند الحديث عن الأكل والصّحّة يقع خلطٌ كبير بين الغذاء غير الصّحّي وبين أكل كمّية غير صحّية .. اللحوم المصنّعة والمعلّبة والأجبان المُعالَجة والسّكريّات المُعالَجة والأطعمة الملوّنة والأطعمة المقليّة والأطعمة المُملَّحة بكثافة وغيرها كثير .. هذه كلُّها أطعمة غير صحّية ويجب السّعي لتجنّبِّها تماما ما أمكن .. أما اللحوم الحمراء والأطعمة المحتوية طبيعيّا على الدّهون أو على نسب عالية من الكاربوهيدرات مثل الخبز والأرز فهي ليست أطعمة غير صحّية، بل أطعمة يجب تناولُها باعتدال وبلا إفراط ..
10- أول خطوة لإصلاح العلاقة مع الأكل هي حبّ الطّعام .. التعامل مع الأكل كتجربة متكاملة من أعظم وأجمل ما نمارسه كبشر ..
11- الأكل تجربة بصريّة ممتعة، ولذا نحبّ تزيين الطّعام ونحبّ المائدة المتناسقة والألوان الزاهية والأطباق المتناظرة .. وهو تجربة سمعيّة ممتعة يعرفُها من جرّب الصّمت أثناء الأكل مع مجموعة، وأصغي لامتزاج أصوات المضْغ والنَّفَس والالتذاذ والانهماك .. طقس يُشبه العبادة الجماعيّة .. وهو تجربة شمّيّة ممتعة، ولذا من الجميل محاولة الاستمتاع عن قصد برائحة الطّعام، أي تقريبه من أنفك والاستمتاع برائحة الأعشاب والتوابل والثّوم والقرفة وحصى البان والزنجبيل وغيرِها .. حاول أن تعطيَ نفسك دقيقة فقط لشمّ الأكل قبل البدء، وحاول أن تظلّ واعيا للرائحة طيلة الأكل وستجد كم يُمكن أن يُغيّر ذلك إيجابا في العلاقة مع الأكل .. وهو تجربة ذوقيّة ممتعة .. إذا كنتَ ممّن لا ينتبهون للنكّهات والطعوم الدقيقة، فابذل جهدا لتعلّم ذلك .. خاصّة الرجال الذين كثيرا ما يفتقدون هذه المهارة .. اسأل زوجتك أو والدتك أو من أعدّ الطّعام عن النكهات التي استخدمَها .. علاوة على أنّ هذا يزيد من استمتاعك بالطّعام وحساسيتك للطّعام الجيد ويحسّن ذائقتَك ويقودك نحو الأكل الصّحيّ، فهذا سيُشعرُ من أعدّ الطّعام لك بالتقدير والاهتمام ويُحسّن أداءك الاجتماعيّ، ولهذا دورُه المهمّ في الصّحة النفسيّة ..
12- الأكل تجربة عصبيّة ممتعة .. راقب الشّعور اللذيذ في الدّماغ حين تتناول مذاقا محبّبا، وسريان ذلك الشّعور بالرّضا حين يبدأ غذاء الدّماغ في الوصول إليه .. خسارة هائلة أن ينتقل شعورك تجاه الطّعام من الجوع إلى التّخمة مُباشَرة .. هناك فرقٌ هائل بين الالتذاذ بالطّعام والرّضا الناتج عن بداية الشّبع وبين التّخمة .. تخيّل أنّ الأكل شريك دائم لك حتّى تموت، وأنت لا تنال منه إلا الحرمان المؤلم أو الحضور الخانق!
13- هناك فيديوهات على يوتيوب عن الأكل الواعي Mindful Eating وكذلك عن الأكل التأمّلي Eating Meditation .. مفيدة جدّا في تحويل الأكل من نشاط أوتوماتيكي غافل إلى نشاط واعٍ تأمّليّ يستغرقُ جميع الحواسّ والملَكات ويُصبحُ تجربة متكاملة ..
14- الأكل تجربة اجتماعيّة مهمّة للغاية .. هذا أمر أدركه الإنسان منذ وجوده، وصار الأكل مرتبِطا ارتباطا وثيقاً بالاجتماع البشريّ .. العرب يقولون "بيننا عيش وملح" والأمريكان يقولون "We broke bread together" فالمؤاكَلة من أهمّ ما يؤكِّدُ المودّة .. لا يوجد نشاطٌ بشريّ مهمّ والطّعام ليس جزءا أساسيّا منه، من ولادة وتعارف وزواج ولقاء عمل وإنجاز ووفاة وغيرها .. إذا لم أتشارك وجبة واحدة على الأقلّ في اليوم مع غيري فهذا مؤشّر سيئ .. هذا لا يعني أنّني مهمّ أو مشغول أو لا يوجد في محيطي من يليق بمؤاكلتي، بل يعني أنّني وحيدٌ وبائس وأنا مسؤول بقدر أو آخر عن ذلك .. هناك حولنا من يُمكن أن نؤاكلَهم، لكنّنا تُفضّل مؤاكلة الهاتف والفيسبوك على زميل العمل أو العائلة أو الأصدقاء ..
15- الأكل تجربة دينيّة مهمّة للغاية .. لهذا فالأكل جزء من كثير من شعائر الأديان، وهناك صلوات وأدعية وأذكار مصاحبة لنشاط الأكل ..
تأمّل كم مرّة ورد في القرآن "كلوا" أو "لا تأكلوا" .. القرآن يُقيم فصلا واضحا بين الأكل كنشاطٍ إنسانيّ وبين الأكل كفعل بهيميّ .. الأكل الإنساني الفطريّ أكلٌ واعٍ مقتصد مرتبط باسم الله ومتّصلٌ بالوجود الرّحب وبشعور الإنسان بالفضل والخير والنّعمة وبإحساسِه أنّه جزء من كلّ أوسع، جزء من كينونة رحبة، أما الأكل البهيمي فهو أكلٌ غافل شَرِه مُتعدٍّ وجاحدٌ ومتنكِّرٌ ومستَلِب ..
16- الأكل تجربة بيئيّة (إيكولوجيّة) مهمّة للغاية .. الأكل هو أكثرُ اتصالاتِنا بالطبيعة إراديّة .. أنتَ تُدخلُ جزءا من الطبيعة إلى داخلك كلّ يوم، وما تُدخلُه هو حصيلة سلوكِنا البشريّ الجمعيّ .. هو حصيلة الزراعة والتصنيع وتربية الحيوانات والصّناعة ومخلّفاتِها ونظافة مصادر المياه ونسب التلوّث في الجوّ والتربة والأنهار والبحار والمحيطات .. أنت لا تأكل حصيلة سلوكك وحدك تجاه الأرض والبيئة، بل حصيلة سلوكنا جميعا كبشر .. هذا يجب أن يولّدَ فينا شعورا مضاعَفا بالمسؤوليّة ونقمة مُضاعَفة على من يعبثون بكوكبِنا ومستقبل أطفالِنا محلّيا وعالميّا .. هناك ما يمكن لكلّ شخص فعلُه، أقلُّه ألا تلقيَ كلّ يوما أكواما من بقايا الأكل أو الأكل الفاسد .. لن يموت أفرادُ الأسرة لأنّ الطبخة نفدت وما زالوا لم يشعروا بالامتلاء .. هذا أفضل من أن يُلقى نصف الطبخة في النفايات ويُحرَق ويلوّث الجو والمياه والتربة ..
والحديث يطول ..
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!