كاتبة
المطاردة
أطل رضوان مبتسما من باب الغرفة ، وهتف وهو يلهث : السلام عليكم
رفعتُ بصري إليه لأرى العرق يغطي جبهته، وقد علت خديه حمرة محببة.. سألته :
أين كنتَ ؟ لقد مضى على انصرافك من المدرسة أكثر من ساعة
أجاب : لقد تأخر أبي عليَّ
- وما سر احمرارك وتعرّقك هكذا ؟ هل كنت تنتظره تحت الشمس ؟
مسح جبهته بكفه المتسخة فرسمت خطوطا سوداء عليها، وردّ مبتهجا :
= لا يا أمي .. كنت ألعب مع رفاقي
- تلعب ؟؟ في هذا الحر ؟؟!!
= نعم .. كنت أتسلى باللعب معهم حتى يحضر أبي
- وبم كنتم تلعبون ؟؟
وكأنه كان ينتظر السؤال .. فانطلق يسرد عليّ بحماس :
+ أمي أتعرفين الفراشات ؟ الفراشات الملونة التي تقف على الزهور ؟؟ يا الله .. لقد كانت حديقة المدرسة اليوم مملوءة بها، وصرنا نلحق بها من مكان إلى آخر، ونتسابق في اصطيادها والإمساك بها، وقد أمسكتُ أنا بواحدة و ...
وقاطعته مستنكرة : تتسلون باصطياد الفراشات ؟!
خبا حماسه فجأة وهتف مترددا : وماذا في ذلك ؟
سألته بحدّة : ألم تجدوا لعبة أفضل من إيذاء تللك الفراشات المسكينة ؟
أجاب والحيرة تلوّن صوته : ولكننا يا أمي كنا نطاردها لنمسك بها، ثم نتركها تطير دون أن نؤذيها، كنا فقط نريد أن نعرف من هو الأسرع في اصطيادها .. كنا نتسلى
لاحظتُ حيرته فقلت بهدوء : يا ولدي في المرة القادمة ابحث عن لعبة أخرى تتسلى بها، غير مطاردة الفراشات
تساءل : ولمَ يا أمي ؟ قلت لك .. لم نكن نؤذيها
- يا بني مجرد إمساكك بها فيه أذى لها، ألم تمنعها من الحركة والطيران ؟ ألم تقيّد حريتها وتحبسها ؟؟ ثم تخيّل لو أن ماردا حجمه أضعاف حجمك، أمسك بك بين أصابعه، ماذا يحدث لك ؟
صمت ينتظر والحيرة ما زالت تعلو وجهه، وبدا أنه لم يفهم قصدي
تابعتُ : لو أن المارد أمسك بك ليتفحصك فقط، دون أن يؤذيك، ألا يكفي إحساسك أنك في قبضته لتمتلئ نفسك ذعرا وخوفا قد يقضيان عليك ؟؟
هتف مستنكرا : ولكن .. لكن الفراشة ليست مثلي، إنها لا تشعر مثلي، وأنا لم أقصد إيذاءها .. أقسم لك
- أعرف يا ولدي، ولكني لا أحب لك مثل هذه التسلية، فقد تمسك بها بشدة فتسبب لها الأذى، وقد يغويك الشيطان فتنتزع أحد أجنحتها لتتسلى بمنظرها وهي تحاول الطيران دون جدوى، أخبرني .. ألم يحاول أحد رفاقك ذلك ؟
أطرق ببصره ولم يجب..
أردفتُ : أرأيت ؟ لقد فعل أحدكم ذلك، ولعله لم يؤذها في المرة الأولى، لكن الشيطان أغواه بذلك مرة بعد مرة حتى فعلها.. اسمعني يا ولدي، أنا أريد أن تكون عطوفا لينا تملآ الرحمة قلبك، حتى يحبك الله، فالله لا يحب من كان قاسيا غليظ القلب، والرسول عليه الصلاة والسلام يقول :( من يُحرم الرفق يُحرم الخير كله )* ولا أريد لك أن تُحرم الخير .
وبنبرة احتجاج هتف : ولكن يا أمي هذه الفراشات لا تشعر .. قلت لك لا تشعر
- لا .. هي بالتأكيد تشعر وتحسّ، لكن شعورها مختلف عن شعورك، ثم إن نبينا عليه الصلاة والسلام أوصانا بالرفق لأجل أنفسنا أولا، ثم ...
وقاطعني باستغراب : لأجل أنفسنا ؟!! كيف ؟
- حين يتسلى طفل بإيذاء الحشرات أو الحيوانات الضعيفة، تتحجر مشاعره، ويقسو قلبه ويعتاد الأذى والبطش، ويجد في هذا العمل لذة ومتعة يغويه الشيطان بها، فإذا ما كبر يوما وأصبح شابا، كبرت معه قسوته حتى طغت على قلبه وضميره، وما عاد يكتفي بإيذاء تلك المخلوقات فقط .
رنا إليّ يستوضحني ما لم يفهمه، فتابعتُ – وفي ذهني تتزاحم صور مجرمي الحروب في كل زمان ومكان - : هؤلاء الأطفال يا صغيري يفقدون تدريجيا الإحساس بآلام المخلوقات الصغيرة ويتفننون في تعذيبها، حتى إن بعضهم يصبح همه مطاردة الطيور أو القطط لإثارة الذعر في نفسها، أو يضربها ويؤذيها.. ومثل هؤلاء الأطفال يكبرون وتكبر معهم قسوتهم، فيتلذذون بزرع الخوف في أعماق البشر، ويتسلون بإرهابهم وإيذائهم، ويعتادون البطش والعدوان، حتى يصبحوا طغاة عتاة متجبرين .. وأنا لا أريد لك ذلك ..فهل تريده لنفسك ؟
همس مطرق الرأس : لا يا أمي .. لقد فهمتُ وأعدك أني لن أفعلها ثانية
- أريدها من قلبك لئلا تتكرر حقا
رفع وجهه الوضاء المشرق إليّ، وهتف بحماس : هي من كل قلبي
ضممتُه إلى صدري سعيدة به، ودعوت الله أن يحميه من همزات الشياطين .. شياطين الجن والإنس .
* رواه مسلم
المصدر : صفحة حروف تلوّن الحياة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!