باحث في التاريخ والتراث، صدر له خمسة مؤلفات في موضوعات التاريخ العباسي والمملوكي والعثماني، وله عشرات المقالات في عدد من المواقع والدوريات.
كيف تتعامل مع طفلك؟.. ملامح تربوية عند علماء المسلمين
كانت الحياة الثقافية والعلمية في تطور لافت في الحضارة الإسلامية كلما تقدم بها الزمن بعد عصر النبي والخلفاء الراشدين؛ إذ كان التنافس في التربية والتعليم هو الشعار الذي ظهر صداه في زمن ازدهار الحضارة في القرنين الثالث والرابع الهجريين، فقد كانت كما - تقول المستشرقة الألمانية الشهيرة زيغريد هونكه في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب": "الاحتكاكات بين الآراء المختلفة قد منحت الحركة الفكرية حيوية دائمة، وحمت الإسلام من الجمود، وأجبرته على أن يُسلِّح نفسه علميًّا، وأن يتطوَّر بالقوى العقلية وينهض بها من سباتها ... ففي كل حقل من حقول الحياة صار الشعار للجميع: تعلَّم وزد معارفك قدر إمكانك وأينما استطعت. وبأقدام ثابتة ونفوس هادئة مطمئنة، تعرف حقَّها، وتُؤَدِّي واجبها، أقبل العرب على ما وجدوا من معارف، فاغترفوا منها قدر جهدهم، وما رأوا فيه نفعًا لهم".
رؤية مبكرة للتربية
لكن قبل تحصيل المعرفة الناضجة والمتخصصة التي كانت تتبلور في مرحلة الفتوة والنشاط والشبيبة، كانت تسبقها مرحلة الطفولة التي تجلى اهتمام الدولة والمجتمع بها منذ عصر النبي، والحق علاقة المعلم بصبيان المكاتب/الكتاتيب كانت تتكشف بالتربية العملية يوما بعد يوم، ومن خلال اتجاهات كبار الصحابة والتابعين في تلك الفترة المبكرة، فقد تناولوها في أحاديثهم وحلقاتهم، وأخذها عنهم تلاميذهم الذين أصبحوا فيما بعد رؤساء حلقات وعلماء أجلاء، فقد رُوي عن مجاهد بن جبر (ت104هـ) التابعي الكبير وتلميذ عبد الله بن عباس، أنه قال: "مُعلم الصبيان إذ لم يعدل بينهم جاء يوم القيامة مع الظَّلَمة"(2). وعلى نهجه رأى التابعي مكحول الأزدي (ت112هـ) الذي قال: "إذا رأيت المعلم لا يعدل بين الصبيان كُتب من الظلمة".
ومن ثَمَّ حرص المعلمون والمؤدبون على تطبيق هذه الأقوال المأثورة عن أولئك العلماء الأجلاء باعتبارهم المثل والقدوة العلمية والأخلاقية، وظهرت جليًّا في ثقافة ووعي الطلاب المتخرجين في هذه المكاتب والحلقات. لكن ثمة إشارات تبين أن الكتاتيب التي كانت بمثابة المدارس الابتدائية حينها، كانت الدولة تولي عناية بها ولو بصورة رمزية منذ فترة مبكرة في عصر الدولة الأموية على سبيل المثال، فقد تفقد معاوية بن أبي سفيان أحد هذه الكتاتيب، ويروي أحد تلامذتها ذلك الموقف، قائلا: "قال لنا المعلم: ما سلَّمتم على أمير المؤمنين؟! إذا رجَع فسلِّموا عليه، فلما رجع قُمنا إليه، فقلنا: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته. قال: اللهم بارك في ذراري (نسل وذرية) أهل الإسلام، اللهم بارك في ذراري أهل الإسلام".
وقد تطور الأمر في عصر خَلَفِهِ الوليد بن عبد الملك بن مروان (ت 96هـ)، وكانت الدولة الأموية قد بلغت في عصره من الاتساع شرقًا وغربا مبلغا، فقد أُثر عنه أنه كان يتخير مدرسي المرحلة الابتدائية بعناية شديدة، وكان يُطلق عليهم المؤدِّبين.
فلسفة التربية عند علمائنا
على أنه مع تطور المعارف، واتساع الدولة، وصقل التجارب، واختلاط الأعراق والأجناس، ورسوخ الثقافة والحضارة، بدأ بعض العلماء والمفكرين يدوّنون رؤاهم المنهجية في التربية الصحيحة القويمة في مؤلفاتهم، فابن سينا يجعلُ أساس التربية مُراعاة ميول الأطفال واستعدادهم، حتى لا يرهق الأطفال بأعمال يصعب عليهم أداؤها؛ لأنها لا تجري مع رغباتهم. وعلى ذلك فابن سينا يحترم الميول مهما كانت متواضعة. كذلك عالج هذا الفيلسوف مشاكل التأديب بطريقة يتجلى فيها الحزم الممزوج بالرفق، فرأى أن يجنب الصبي معايب الأخلاق بالترهيب والترغيب، والإيناس والإيحاش، الإعراض والإقبال، وبالحمد مرة وبالتوبيخ مرة أخرى، ما كان كافياً؛ فإن احتاج للاستعانة باليد لم يحجم عنها.
وليكن أول الضرب قليلاً مُوجعاً كما أشار به الحكماء من قبل، بعد التخويف وبعد إعداد الشفعاء. وهكذا لا يجعل ابن سينا القسوة والضرب أول وسيلة للتأديب، بل هو لا يلجأ إلى الضرب إلا إذا فشلت الوسائل الأخرى ولقد حدد علماء المسلمين عدد الضربات التي توقع على الطفل بثلاث، كما عينوا المواضع التي يحدث فيها الضرب حتى لا يتعرض الطفل للأذى.
والغزالي الذي يعتبر حُجة الإسلام، والذي كان لآرائه أكبر الأثر في تفكير المسلمين في العصور التالية، يتكلم عن الطفولة بعطف ورقة لا حد لهما. فهو يصف الطفل بأنه "أمانة عند والديه، وقلبه الطاهر جوهرة نفيسة ساذجة"، ومن ثم يجب على ولي أمر الطفل أن يقوم بإرشاده بأمانة وإخلاص. وهو يوجب مراعاة شعور الطفل فيقول: "إن الطفل المستحي لا ينبغي أن يهمل، بل يستعان على تأديبه بحيائه وتمييزه"، كما يرى: "ألا يُؤخذ الطفل بأول هفوة، بل يتغافل عنه ولا يهتك سره، ولاسيما إذا ستره الصبي واجتهد في إخفائه"؛ كما ينصح للمربي: "أن ينظر في مرض المريض وفي حال سنّه ومزاجه وما تحتمله نفسه من الرياضة ويبني على ذلك رياضته".
وابن الحاج العبدري الذي عاش بمصر في القرن الثامن للهجرة يحمل حملة شعواء في كتابه (مدخل الشرع الشريف) على مؤدّبي ومربي عصره، وينعى على أولياء أمور الأطفال أنهم يقسون على الصبيان فيضربونهم بعصا اللوز اليابس وبالجريد. ويصر على أن يأخذ المعلم الأطفال بالرفق ما أمكن. ولكن إذا اضطر المربي إلى أن يضرب الصبي على تركه الصلاة متى ما بلغ السن التي تجيز ذلك، فلا بأس أن يضربه ضرباً غير مبرح، ولا يزيد على ثلاث ضربات شيئاً إلا في حالات نادرة جداً. وهنا يحدد عددها بعشرة، وهو الحد الأقصى.
ولا ينسى العبدري أن يُذكر المربي بتفاصيل عدة لا يخرج مرماها عن مراعاة المسلمين لشعور الأطفال. فهو ينصح المؤدب مثلاً ألا يسمح للتلاميذ أن يحضروا غداءهم إلى الكُتّاب، أو يحملوا نقوداً لشراء ما يرغبون من الطعام، حتى لا يتألم الطفل الفقير الذي لا يمكنه مجاراة الموسرين في مظاهر يسرهم. وعلى ذلك فهو يفضل أن يرجع الأطفال أجمعون إلى منازلهم للغداء، ويرى العبدري أيضاً أن يلعب الأطفال لعباً جميلاً بعد انصرافهم من المكتب حتى تذهب عنهم آثار التعب والملل، وحتى يستأنفوا دروسهم بشوق واهتمام.
أما العلامة ابن خلدون فقد عقد في مقدمته الشهيرة فصلاً في "أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم". وذكر أن كل من كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو الخدم "سطا به القهر، وضيق على النفس في انبساطها، وذهب بنشاطها، ودعاه إلى الكسل، وحمل على الخبث والكذب، وفسدت معاني الإنسانية فيه.. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف". فالقهر والتخويف في المرحلة الابتدائية عند ابن خلدون له نتيجة وخيمة على المجتمع ومن ثم الحضارة، وذلك ملمح اجتماعي وتربوي لافت وذكي من ابن خلدون.
كذلك لم تكن رعاية الأطفال مقصورة على المفكرين والمشتغلين بالتربية، بل قام المحسنون بإنشاء المعاهد الخيرية لتعليمهم وحمايتهم. وكثير من الكتب الإسلامية تفيض بذكر الكتاتيب التي بنيت لتعليم اليتامى والمساكين وإطعامهم وكسوتهم. ولقد ساهمت المرأة المسلمة بقسط وافر في هذا الميدان، إذ يذكر المقريزي في كتابه الخطط أسماء كثير من النساء اللاتي قمن ببناء الكتاتيب وحبسن عليها الأموال والأملاك لتعليم أبناء الفقراء كتاب الله. وكثيراً ما كان يبنى الكتاب بجانب المدرسة والبيمارستان (المستشفى) مما سهّل بطبيعة الحال حصول الأطفال على العلم والعلاج.
أما مجهود الأطفال والشبان في طلب العلم فقد حُكي فيه النوادر والحوادث التي تكشف الحرص الشديد على أهمية هذا الطلب، ومكانة الطالب، وليس أدل على ذلك مما وقع مع الفقيه المالكي ابن التبان المالكي من علماء القرن الرابع الهجري في تونس الذي يقول عن تجربته: " كنتُ أول ابتدائي أدرسُ الليل كله، فكانت أمي تنهاني عن القراءة بالليل، فكنتُ آخذ المصباح فأجعله تحت الجفنة، وأتعمد النوم، فإذا رقَدَتْ أخرجتُ المصباح وأقبلتُ على الدرس - وكان كثير الدرس ذكر أنه درس كتاباً ألف مرة - إلى أن قال لي أبي ذات يوم: يا بني ما يكونُ منك؟ لا تعرف صنعةً، واشتغلت بالعلم ولا شيء عندك. فلما كان ذات ليلة سمعته يقول لوالدتي: عرفت أني عُرّفت اليوم بابني؟ وذلك أني حضرت إملاكا (عقد زواج) في مسجد - سماه - فوجدته ممتلئاً بالناس، ولم أجد مجلساً، فقام لي رجل من موضعه وأجلسني فيه، فسأله إنسان عني، فقال له أسكت هذا والد الشيخ أبي محمد.
وقال آخر: خرج والدي محمد بن التبان يوماً من مسجد المسند، فزلق في طين، فبادر رجل وأخذ بيده، وقال لصاحبه: هذا والد الشيخ أبي محمد الفقيه. قال: فرجع وحرّض ابنه على طلب العلم، والتزم القيام بشأنه من يومئذ". تلك بعض من ملامح الصورة الكبرى لتطور التربية في حضارة الإسلام، وهو ملمح يكشف لنا حرص المجتمع على الطفولة، باختيار المؤدّبين والمعلمين الأكفاء، ووضع المناهج المناسبة التي تُراعي هذه المرحلة العُمرية التي كان ولا يزال لها سماتها وخصائصها الفريدة.
المصدر : الجزيرة - ميدان
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن