لمن يتطلع للذكر الحسن بعد موته
كتب بواسطة هدى عبد الرحمن النمر
التاريخ:
فى : في رحاب الشريعة
1778 مشاهدة
• القصة الأولى:
أرض فَلاة، مقفرة مد البصر، حرٌّ لافح وقَيْظ شديد. على جانب الطريق، يتراءى للناظر بيت صغير، يُرى خارجه أتان وحمار وبعض عنزات، وفي الداخل ليس ثمة أحد إلا امرأة تبكي، ورجل تحضره الوفاة، يلتفت إليها: ما يبكيك؟
فترد: "وما لي لا أبكي! وأنت تموت بفلاة من الأرض، ولا يد لي بدفنك، وليس عندي ثوب يسعك فأكفنك فيه!"
فيجيب بثبات: "لا تبكي وأبشري! فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لنفرٍ أنا فيهم: ليموتن منكم رجل بفلاةٍ من الأرض يشهده عصابة من المؤمنين، وليس من أولئك النفر أحد إلا وقد هلك في قريةٍ وجماعة، وأنا الذي أموت بفلاةٍ، والله ما كَذَبت ولا كُذبت، فأبصري إلى الطريق"، فترد متحيرة: "أنّى نجد أحداً ونحن بأرض منقطعة؟!"
فيصر عليها، وتلبث يومها بين ترقب الطريق المقفر ومتابعة المحتَضَر، حتى أبصرتهم! نفر قادم، وما كان يقدم من قبل أحد! فتستوقفهم: "امرؤ من المسلمين يموت تكفنونه؟"، فيتوقف النفر ويُهرعون إليه حين عرفوه، ويشهدون وفاته رضي الله عنهم ويكفنونه ويدفنونه، في أرض فلاة قفر، لم يعلم به سوى ربه، ثم زوجه والنفر.
فمن ذاك الذي توفّي بغير حفاوة وبهرجة ومراسم كما تليق بصاحب رسول الله؟ وفي أرض نائية قَفر؟ لم ينعه خليفة ولا حضرته الأشهاد؟
إنه خامس خمسة في الإسلام! الذي قال فيه المصطفى صلى الله عليه وسلم: (مَا أَقَلَّتِ الْغَبْرَاءُ، وَلَا أَظَلَّتِ الْخَضْرَاءُ أصدق منه)، وقال فيه سيدنا علي رضي الله عنه: "لَمْ يَبْقَ الْيَوْمَ أَحَدٌ لَا يُبَالِي فِي اللَّهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ غيره، وَلَا نَفْسِي"، إنه سيدنا أبو ذر الغفاري رضي الله عنه.
• القصة الثانية:
بعد مسيرة جهاد لا يماري عليها مماري، وَمَا فِي جَسَدِه شِبْرٌ إِلا وَفِيهِ ضَرْبَةٌ بِسَيْفٍ، أوْ رَمْيَةٌ بِسَهْمٍ، أَوْ طَعْنَةٍ بِرُمْحٍ، يموت على فراشه لا على أرض المعركة! ويقول في ذلك: "أمُوتُ عَلَى فِرَاشِي حَتْفَ أَنْفِي كَمَا يَمُوتُ الْبَعِيرُ، فَلا نَامَتْ أَعْيُنُ الْجُبْنَاءُ".إنه سيدنا خالد بن الوليد، سيف الله المسلول!
• القصة الثالثة:
كان إماماً في العلم والعمل، عَلَماً في الزهد والورع، حُبس وعُذب وأوذي، حتى كان جلّاده يقول: ضربته ضرباً لو كان بجمل لأهلكه! حتى تخلعت يده وكسرت له أضلع، وتعاقب عليه ثلاثة خلفاء أذاقوه من صنوف الابتلاء ألواناً، حتى أُمر بلزوم بيته تماماً، وأُنذر الناس من مخالطته، أو الأخذ عنه، أو حتى الاقتراب من داره، فقضى ما شاء الله له أن يقضي حبيس داره لا يخالِط ولا يُخالَط، ويثبته الله تعالى حتى تنقلب الآية على ظالميه، وتنقشع الغمّة وينجلي الحق، فيتهافت عليه الناس حتى منهم من يأتيه مشياً من أقطار أخرى، ولما توفاه الله، شهد جنازته ما يزيد على سبعمائة ألف نفر على البر، خلاف من كانوا في السفن وأتوا من أقطار أخرى!
إنه إمام أهل السنة، أحمد بن حنبل عليه الرضوان.
الشاهد من هذه المرويات وغيرها، أن آثار رحمات الله تعالى وتدبيره وتصريف أقداره، لسنا نحن من يقوم عليها حَكَماً، وإنما غاية ما فيها أن نفهم ونعقل منها ، فإن كان الله فتح على الإمام أحمد وحضرت جنازته ألوف شهد المؤرخون بأنه لم يجتمع على مثلها في جاهلية ولا إسلام، فذلك ليس باب مفاضلة تجعلنا نحكم بأنه أعلى مقاماً من سيدنا أبي ذر مثلاً، ولإن كان الله تعالى اختص من حديثي العهد بالإسلام وخاملي الذكر من الأعراب ما اختصهم به من فضل الشهادة في المعارك التي خرجوا إليها، فذلك ليس لنعقد مقارنة مفادها أنهم أكرم على الله من سيدنا خالد بن الوليد الذي مات على فراشه!
ذلك أن ما يفتحه الله من بركات الأثر وجميل الذكر لمن اصطفاهم لجواره ليس مفتاحاً لعقد المقارنات، وموازنة الحسابات بين فلان وفلان، فكنا من قبل نحسب كلاً على خير، حتى إذا رأينا غيره خصّه الله بجمع أكبر في شهود جنازته، نبني عليه ظنوناً من قبيل: "لعله خير من ذلك الذي لم يشهده أحد"، أو لعل له عند الله خبيئة أزكى، أو لعل كذا وكذا، ونحيد بهذه التخمينات والمقارنات عن الرسالة الربانية، بل ونقحم أنفسنا في حسابات ما لنا بها من طاقة، ولم نحط بها علماً.
ما يفتحه الله من بركات الأثر وجميل الذكر لمن اصطفاهم لجواره ليس مفتاحاً لعقد المقارنات، وموازنة الحسابات بين فلان وفلان
إنما غاية الرسالة في تلك المشاهد، أن من يذكر الله تعالى يذكره الله ويتولاه، لا شكّ ولا جدال في ذلك، لكن "صور" الولاية وبركات الأثر لا يحدها حدّ ولا تختص بها صورة؛ لأن ما يخصّ الله به عباده هو "خصيصة" بين الرب وعبده.
قد يُكتب لنا حيناً أن نشهدها لنتعظ ونعتبر، وقد يجعلها الله مما لا تشهدها عين شهادة، ولا يحيط بها إلا ضمير الغيب ومن اختصه المولى بها، سيدنا حنظلة استشهد صبيحة عرسه وهو جنب، فأَعلمَ رسول الله من حوله أنه يرى الملائكة تغسّله، ومن هنا لُقّب "غسيل الملائكة"، لكن المصطفى ليس بين أظهرنا ليُعلِمنا مآل غيره، ولا هذه الكرامات مما أذِن الله لنا بشهوده، فهل ينفي ذلك أن هنالك آلافاً ويزيد من الشهداء فارقوا عرس الأرض لعرس السماء؟ ولعلّه نالهم مما ناله سيدنا حنظلة؟ أمِنّا من يقطع بعدم ذلك؟ ألأننا لا نعلمهم فالله لم يطلع عليهم! أهذا من شأننا أصلاً! وكم ممن يموت بأرض فلاة لعله لا يشهد جنازته سوى صبيه وامرأته، ولعل عمله في ميزان الله كجبل أحد ! ألأننا لم نشهد فهو لم يعمل؟ وما يدرينا أن قلة الحضور عقوبة على عدم صدق العمل؟ فلعلّه اصطفاء من نوع آخر، نوع بينه وبين ربه، هو أغير من أن يظهره إلا لصفيّه!!
ومن شاء كرامة فليتصل بالمكرِم ذاته، هذه الكرامات رسائل يفترض أنها تردنا إلى ذلك الحبل الممدود من السماء، إلى ذلك الغيب الذي يصير بعد حين عِياناً، ليس المقصود منها أن تزيدنا تشبثاً بالمحسوس والمشهود، فنهرع لتكوين روابط "اذكروني بعد موتي"، و"ادعوا لي حين أغيب"، لن يذكرك أحد! لا أحد يملك ذلك حقيقة، مهما وعدوك سينسوك، ولو ذكروك يوماً لنسوك دهراً.
الله وحده كافيك مؤنة ذلك، ووعده تعالى هو وحده المضمون: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152]. اذكره تعالى صادقاً خالصاً مخلصاً، وهو يتولى ذكرك وأثرك، سيصلك بره وإحسانه ولطف تدبيره، من حيث لم تكن تحتسب ولا يخطر لك على بال، وبصور لعلها خير مما تجري وراءه وترجو ضمانه، في حياتك وبعد مماتك. {إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ} [يوسف: 100].
والذكر بالدعاء وغيره من الأثر الصالح بعد الموت ليس تعويضاً عن التقصير والغفلة والتفريط في حق الله تعالى، بل هو نتاج رابط وثيق بينك وبينه سبحانه، حتى إذا قصر بك العمل يُهديك الله من فضله أسباباً لتوصلك لحيث لم تكن لتصل، فالذكر حصاد وثمرة لما نزرع، وليس زرعاً بعد أن انقطع بنا العمل، فلا نمنّي أنفسنا في محصول لم نتخذ له طلباً، ولا في رِفعة توهب لنا بعد موتنا ونحن لم نرتفع بأنفسنا في حياتنا.
الذكر حصاد وثمرة لما نزرع، وليس زرعاً بعد أن انقطع بنا العمل، فلا نمنّي أنفسنا في محصول لم نتخذ له طلباً، ولا في رِفعة توهب لنا بعد موتنا ونحن لم نرتفع بأنفسنا في حياتنا
لكن حذارِ من سعي كل بغيته الأثر والذكر والرفعة والرياء، فذاك يوكل إليه صاحبه، وأول من تسعّر بهم النار عالِم ومتصدق وشهيد زعموها في الله ولم يريدوها إلا "ليقال" كذا، تذكر أنهم سينسونك على كل حال، فكم من أثر يذكر وينتفع به، والذي خَلّفه في طي النسيان! لكن الله تعالى يحفظ ولا ينسى: {يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} [لقمان: 16].
من شاء الأثر، قدّم له المسير، والمسير الذي يُذكر ويؤثّر ويرتفع حقاً -ولو لم نشهده عياناً- هو الذي كان لله خالصاً مهما قل وصغر وتعثر ، الله سيُرْبِيه ويتولاه وينبته نباتاً حسناً، كيف شاء وكيف أراد سبحانه. {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة: 143].
المصدر : موقع بصائر
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن