استنارة المظلمة
«إن ظلم الكلمات بتغيير دلالتها، كظلم الأحياء بتشويه خلقتهم، كلاهما منكر، وكلاهما قبيح، وإن هذا النوع من الظلم، يزيد على القبح بأنه تزوير على الحقيقة، وتغليط للتاريخ».
رحم الله المفكر والأديب الجزائري محمد البشير الإبراهيمي الذي سطّر هذه العبارة النورانية، فلم أجد أبلغ منها في التعبير عن جريمة اختراع وتمرير المصطلحات على نحو يخالف مضمونها وحقيقتها. الحداثة الغربية التي انبهر بزخرفها بعضنا ونادوا بحرْفِية استنساخها، كانت أحد المصطلحات التي اخْتُلِقت لغير مرادها ومعناها، فظاهرها تبنِّي العلم والتقنية، وباطنها فصل العلم والتقنية عن القيم والغايات الإنسانية.
الحداثة ارتبطت ارتباطا تامًا بمصطلح آخر نشأ في العقلية العربية وخطابها التحليلي وهو مصطلح «الاستنارة»، ومن مقتضياتها ودلالتها الزعم بأن عقل الإنسان قادر على الوصول إلى قدْر من المعرفة يُنير له كل شيء، بدون الحاجة إلى معرفة ناتجة عن الاتصال بمصدر علوي سماوي، ومن ثَمَّ انفصلت عن منظومة القيم الإنسانية اعتمادًا على قدرة العقل على وضع ما يراه مناسبًا لتلك القيم والأخلاقيات، لذا أطلق عليها المفكر والعالم الموسوعي الراحل عبد الوهاب المسيري «الاستنارة المظلمة»، وهي تسمية اقتبسها من المفكر الإنكليزي هوبز، لكنه أضفى عليها بدراساته مزيدًا من العمق والتوضيح.
فكرة «الإنسان مركز الكون» كانت انطلاقة الفكر الغربي، لكنْ سرعان ما جرى الانحراف عن ذلك المنطلق الإنساني، ليُختزل مفهوم الإنسان الذي يعني البشر ككل، إلى الإنسان الغربي. بموجب تلك الاستنارة المظلمة، أصبحت الإنسانية في حالة حرب دائمة، وسادت فيها شريعة الغاب ولغة الذئاب، حيث يأكل القوي الضعيف، ربما كان أبرز ما ترجم ظلامية هذه الاستنارة، الحروب الكونية التي قضت على الملايين في القرن الماضي، ومن قبلها أُبيدت أمة كاملة (الهنود الحمر) من على اليابسة، انطلاقا من اختزال مفهوم الإنسان كمركز للكون إلى الإنسان الأبيض وحده. ربما يندهش البعض لو علموا أن أساطين الفكر والفلسفة الغربية أمثال نيتشه وماركس وغيرهما، ينتصرون لفكرة أن الذات إنما هي وهْمٌ، وتفرض مُثلًا وهمية، وأنها ليست سوى حيلة يخنق بها الضعفاء براءة القوة، فالإنسان لديهم هو ذلك الذئب يُخبِّئ وحشيته بتلك القشرة المتحضرة.
أمريكا لا تتحرك إلا وفق مصالحها المادية لا من أجل الأمن والسلام في العالم
العولمة هي أحد مظاهر وترجمات الاستنارة المظلمة التي أسقطت القيم وجعلت الرجل الأبيض ينطلق من كونه وحده مركز الكون، عندما اتجهت الإمبريالية الغربية والأمريكية خاصة إلى فرض نموذجها على البشرية، بحيث يحل الحديث عن قبول الأمر الواقع محل المناداة بالعدل، وتصبح الشعوب ـ سواهم- حيوانات يمكن التنبؤ بسلوكها، وتنتفي الخصوصية الدينية والقومية والإنسانية وتُمحى الذاكرة التاريخية، تلك العولمة التي أُضْفيتْ عليها ألقاب أخرى أشد تدليسا وخداعًا كالنظام العالمي الجديد والشرق الأوسط الكبير أو الجديد، فهي مصطلحات جائرة وجدت لها مكانًا بين فئام من أمتنا بزعم أنها دعوى للمساواة بين البشر. وبدورها دخلت على الخط أطروحة «نهاية التاريخ» التي أعلنها فوكوياما، التي تُحول العالم بأسره إلى كيان خاضع للقوانين المادية الأحادية المتمثلة في الحضارة الغربية، لإنهاء الجدل والتدافع لصالح الإنسان الغربي.
الاستنارة المظلمة التي يعيش في ظلها الغرب مستترًا بالإنجازات المادية البراقة، تُعبر عنها أكذوبة «ندرة الموارد» التي اخترعها الغرب، حيث طرح البروفيسور وعالم البيئة الأمريكي اليهودي جاريت هاردن فكرة «أخلاقيات قارب النجاة»، وفيها يُشبِّه العالَمَ بقارب للنجاة ليس فيه من الطعام ما يكفي الجميع، وبالتالي يجب أن يذهب الطعام إلى من يتمتعون بأكبر فرصة للنجاة، ويدع قائدُ السفينة الذين يصارعون الأمواج للغرق، وينبغي ألا يشعر بوخز الضمير لأنه حافظ على ركاب السفينة الأقدر على النجاة.
والسفينة هي الأرض بمواردها، وركاب السفينة هم الغرب، وأما الذين يصارعون الموت فهم شعوب العالم الثالث، لكنها فرية عظيمة فنصف مساحة أراضي الكوكب غير مزروعة، وملايين الأطنان من القمح تُلقى في البحر، فالقول بندرة الموارد أكذوبة تستغلها الدول ذات الطبيعة الاستعمارية ليتحكم من يملك فيمن لا يملك، وتلك هي أخلاقيات الحداثة الغربية أو الاستنارة المظلمة.
الاستنارة المظلمة انطلقت من نسبية القيم، عندما حلت المنظومة القيمية التي استحسنها العقل الغربي محل منظومة القيم الإنسانية التي أرْستها التعاليم السماوية، وأصبحت تلك النسبية هي المُحرّك للجيوش والأساطيل، فالولايات المتحدة باعتبارها حامل لواء الاستنارة والحداثة تدخلت لتدمير العراق بحجة امتلاك صدام حسين للأسلحة الكيميائية تحت دعوى إقرار الأمن والسلام، مع انعدام وجود الأدلة المادية، لكنها لم تعمل على الإطاحة ببشار الأسد الذي قتل المدنيين والرضع والأطفال والنساء بالأسلحة الكيميائية التي أكد العالم بأسره قيامه باستخدامها، لأن أمريكا لا تتحرك إلا وفق مصالحها المادية لا من أجل الأمن والسلام في العالم.
الحداثة الغربية أو الاستنارة المظلمة خدع بريقها أعين شرائح واسعة في الأمة الإسلامية والعربية نظرًا للإنجازات الضخمة التي قدمها الغرب، ولكن في حقيقة الأمر هذه الإنجازات لا تُعبر عن تطور الحياة الإنسانية، بقدر ما تترجم جشع الإمبريالية ونهمها، ومن ينظر إلى الفقر والمرض بين شعوب العالم الثالث، سيدرك أنها ضحية لأطماع الدول الاستعمارية ودعاة الحداثة والاستنارة. الأمة إذ تخوض معركة الوعي، كان لزاما على أبنائها ذوي الأقلام والمنابر، أن يوضحوا لعامة الناس مضمون وحقيقة ومدلول تلك المصطلحات الغربية الوافدة، لأن المشكلة في استقبال النخب لتلك المصطلحات وتفسيرها وفق توجهاتها وأيديولوجيتها وخلفيتها الثقافية بدون الأخذ في الاعتبار طبيعة البيئة التي نشأ فيها المصطلح والسياق التاريخي والسياسي لولادته.
وقد تجد النخب المثقفة في حديثي مرعىً خصيبًا للجدل حول الحداثة، لكنهم ليسوا المعنيين بحديثي، وإنما أهتم لأمر الجماهير التي تُمرر عليها تلك المصطلحات على حين غفلة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
كاتبة أردنية
المصدر : القدس العربي
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة