كيف نشأت ظاهرة الرداء السلفي في سورية، لتعلن نفسها أنها خط الدفاع التوحيدي للأمة، وشكلت لها فروعاً ميدانية، نُقل عبرها مئات ملايين الدولارات، من الخليج، وتحت أنظار مؤسساتها الأمنية إلى سورية، وساهمت شخصيات الظاهرة مباشرةً، بالتحريض على الجيش الحر، يوم أن كان حراً، وليس بعد أن فتّت ووجّه لمهام إقليمية محدّدة.
كيف فُصلت مجموعات ميدانية عن الجيش الحر، وأعلن بعده مشروع الثورة السلفية البديل، والتي كانت المدخل الميداني الأبرز لسقوط الثورة السورية التي تحتاج مراجعةً نقديةً بنيويةً لا تقف عند هذا الاختراق فقط، ولكن على كل أزمة الواقع الثقافي والهشاشة الفكرية التي، وعلى الرغم من المخزون الكبير من فكر المعرفة الإنسانية، بيمينه ويساره، والذي كان العقل السوري حيوياً معه، كانت كارثة السقوط كبيرة.
كما هي مشاعر الغُبن التي تصل إلى حد أن يصرع الإنسان نفسياً، وهو لا يزال يشاهد تضحيات هذا الشعب، وقدّاس شهدائه التي لا تنقطع، وأن اللعبة مستمرة تُسخّر ديمغرافيته، لمصالحها القومية، وتوزع تركة الثورة على مساحة التوظيف، حيث لا يوجد مطلقاً أي أرضيةٍ لتسوية، تُبقي على الثورة طرفاً تفاوض، فضلاً عن أن تستعيد آمالها بنصرٍ موهوم.
عبر هذا المثال، أسقط الميدان السوري، وقد تورّط في هذا الإسقاط حلفاء الثورة، ثم بدأت مرحلة التصفية التي كرّست تنفيذيا بعد اتفاق سوتشي، واليوم كل ما يجري هو استكمال الأدوار وتبادلها بين حلفاء الأمس، واستعادة أي دور لهم، في الشراكة في تأهيل النظام الإرهابي في دمشق.. نعم قد تكون هناك حسابات قديمة لتطبيع أبوظبي أخيرا، تتفق مع موقفها المركزي، من الحريات والديمقراطية في الوطن العربي، لكنها لم تكن وحيدة في حلفاء الأمس الذين هيأوا الأرض للسقوط المدوي اليوم، والرقص على جثامين الشهداء.
وهذا المشهد الديني الأيديولوجي لم يكن أفضل من حراك البنية المدنية للثورة خارجيا. وهنا لا نحمّل المسؤولية للبندقية الشريفة المعزولة التي حملت السلاح دفاعاً عن الشعب والثورة، وإن كان القرار ذاته يحتاج إلى إعادة تقييم بالطبع، كون تجار الحروب وجدوا بغيتهم في عسكرة الثورة، ولا يمكن أيضاً أن نهوّن من المقاومين المدنيين الذين ظلوا حراساً لمبدأ الثورة، وحق دماء الحرية، فاختطفت الراية من أكفّهم المخضبة، فكانت أفدح الخسائر وأقصر الطرق لوأد حلم الشعب السوري.
وفي المسار السياسي، كيف تحولت البنية العلمانية والإسلامية المدنية إلى شركات استثمار مفتوحة للتوظيف والعلاقات العامة، للدول الراعية خليجياً وتركياً وأوروبياً، حين كانت الثورة في موقع الاهتمام العالمي إنسانياً، وكيف دُحرجت من مشروعٍ إلى مشروع، ومن انقسام إلى انقسام، فهل تم هذا الأمر من دون ضعف وهشاشة داخلية في جسم الثورة المدني؟
ليس من أهداف هذا المقال، ولا من منهج الكاتب مطلقاً، أن يُشير بمنطق الخيانة إلى أحد، ولا إغفال البيئة المستحيلة لدعم الثورة استقلالاً، وقد يرى بعضهم أن نوايا بعض الحلفاء كانت صادقةً مع بقاء مصالحهم، فهل النوايا، باعتبارها بديلا، أغنت عن القوة الذاتية لاستقلال الثورة؟
ولا نجهل أن الثورة قد خُنقت مبكراً منذ قرّرت تل أبيب أنها خطرٌ عليها، وأن طهران اعتبرتها اللبنة الأولى لإسقاط نظام الخرافة الطائفي في الأرض العربية. ويعرف هذا القلم تماماً ما الذي يعنيه للغرب أن تتحرّر إرادة السوريين ديمقراطيا، ويبدأ العرب، عبر هذه التجربة، عهداً سياسياً مختلفاً، يقوم على فكر الحضارة الإسلامية والحرية العربية التي تتجاوز كل الآلام من العثمانيين إلى الفرنسيين إلى البعث الطائفي.
كل هذه عوامل أساسية في فتح بوابات الجحيم على الثورة، وفتح العبور إلى تدميرها، لكن البنية الخاصة ببعض الشخصيات المتعدّدة في سورية لعبت دوراً كبيراً سهّل تحويل أرض الثورة إلى محرقةٍ لا بواكي لها، ولا قرارات أممية تحميها. كنتُ أرصد حجم المصالح الفردية لبعضهم، مع الأنظمة في الخليج العربي، أو مع تركيا أو الغرب، وآثارها على بنية الثورة وتشظيها الذي لا مثيل له.
وكان هذا المشهد محبطاً لكتلةٍ مخلصة، لكن بعض أطرافها كان نرجسياً بكّاءً، يحسب أن مدخل الإنقاذ في إثارة الناس نحو طهرانيته، وليس الكفاح لبذل أكبر قدرٍ ممكن، من بناء القاعدة الصلبة، وهنا المأزق والمدخل معاً.
كيف للثورة أن تقوم، وفي بنية عمودها السياسي من تضطرهم ظروفهم الاقتصادية والاجتماعية، وأحيانا ليس كضرورة، ولكن تكميل مصالح، فيبقى العنصر الرئيسي في مؤسسات الثورة مرهوناً لمواقف أنظمة الحلفاء، فضلاً عن حاجته لتأمين جنسية وجواز سفر يتنقل به، حيث إن الأمر لم يقف عند تصريح الضرورات لبعضهم، وإنما تجاوزه إلى تغطية مواقف الحلفاء لزيادة مصالحه، فتكاثرت دكاكين الثورة على حساب صمودها.
كيف يكون ذلك، وقد قدم الشعب السوري أقوى صور التضحية والفداء؟ وهل هي حالة نادرة، أم أن التدخل بُليت به ثورات عديدة؟
هنا مفصل مهم، أن القوى الهشّة والدعم الظرفي الذي يُمثل عنصراً مهماً لصمود الثورة لا يُمكن أن يكون قاعدتها الصلبة، وهو ما لم يتحقق، لا في ثبات الجيش الحر وحمايته، ولا في المؤسسة السياسية التي كان يفترض أن تتمسّك بالمجلس الوطني السوري، وتسعى إلى عزل نخبته المفوضة عن أكبر مساحة تأثير، ويُدعم استقلالهم بكل قوة، حتى ممن لا يملك استقلاله الكامل.
إنني من المؤمنين بأن الثورة لم تسقط، بروحها ومبادئها. ولكن لا يمكنها أن تعود بتجديدٍ مدنيٍ وفكريٍ وسياسي وكفاحي، من دون أن تعزل أخطاء التجربة عن فرص العودة الصحيحة، والتي أول شروطها مغادرة وعود الحلفاء، والتعامل مع الواقع السياسي لتأمين أكبر سلم للناس، عبر مصالح السوريين أولاً، لترفع هتافات عودة الثورة بروحٍ جديدة. ولكن ليس قبل أن تنضج الثمرة، لتأمينها، لا تأمين مشاريع الحلفاء.
العربي الجديد
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة