قصتي مع الظلام والضبع وَعَبَد الرحيم
نفضت الطفلة ذات العشر سنوات يديها المبللتين بالماء البارد، وما إن وصلت قطرات منه إلى لمبة مصباح الكاز المتوهجة فوق صندوق خشبي صغير، حتى صيّرتها شظايا متناثرة، وخيّم الظلام الدامس، فوراً، على الغرفة التي تستأجرها أسرة الفدائي الفلسطيني، عند طرف إحدى القرى القريبة من درعا جنوبي سورية.
كان الحدث، على الرغم مما قد يبدو عليه الآن من الصغر، والتفاهة ربما، أشبه بزلزالٍ أفقد الأم الشابة صوابها، وجعلها تلطم نفسها، يأساً من إمكانية فعل شيء يتيح لها إكمال عملها اليومي، في صقيع تلك العشية العاصفة، كي تنجز احتياجات أطفالها الخمسة الذين لم يكن أصغرهم قد بلغ السنتين بعد.
صحيحٌ أن بابور الكاز، وهو موقد طبخٍ بدائي، سبق رواج أفران الغاز، ولطالما استخدمه الفقراء وسيلة تدفئةٍ بائسة أيضاً، بدا حينئذ بديلاً معقولاً نسبياً لتوفير إضاءةٍ شحيحة، ولكن الأم الغارقة في حيرتها كانت قد أطفأته للتو، بغية توفير البقية الباقية فيه من الكاز الذي اشترته بآخر فرنكاتٍ سوريةٍ تملكها، لتشعله في ساعة الصباح الباكر، حيث تحتاج تسخين الماء، لتنظيف رضيعها، وإعداد الشاي، مع الزيت والزعتر، إفطاراً لأطفالها الثلاثة الكبار، قبل ذهابهم إلى المدرسة.
"اذهب الآن إلى دكان عبد الرحيم، وقل له أن يعطيك لمبة، وسندفع له ثمنها غداً حين يعود أبوك من المعسكر" قالت لابنها البكر، وقد حال توترها الشديد دون أن تنتبه إلى خطورة قرارها، كما حالت الظلمة الدامسة، في الغرفة، دون أن ترى علامات الرعب على وجه الطفل، ذي الاثني عشر عاماً.
وما كادت دقائق قليلة تمر، بعدما لبّى الولد أمر أمه طائعاً، حتى تذكّرت هي قصص الضبع الذي كان يقال إنه اعتاد أن يقتحم القرية في ليالي الشتاء الماطرة، ويذرع حاراتها وأزقتها بحثاً عن فريسةٍ، فهرعت من فورها لتطرق أبواب أقرب الجيران، متوسّلة إليهم أن يلحقوا بابنها، قبل فوات الأوان، وقد فعلوا؛ ذرع الرجال الطريق المؤدية إلى دكان عبد الرحيم، جيئةً وذهاباً، مرة ومرتين وثلاثاً، لكنهم لم يعثروا عليه.
كان الطفل الذي سمع حكايات الضبع مراراً من زملائه في المدرسة، وكثيراً ما شاهد معهم، نهاراً، آثار مخالب الحيوان المفترس، في الساحات الطينية الموحلة، قد دفعه الخوف إلى النأي عن الطريق الداخلية المختصرة بين الأزقة المظلمة، واختار الدوران عبر الطريق الدولية البعيدة المارّة بجوار القرية، استئناساً بأضواء السيارات المتجهة من درعا إلى دمشق، أو العكس، وهو ما استغرق منه وقتاً مضاعفاً، قبل أن يصل إلى دكان عبد الرحيم، وكذا بعد عودته منها، خائباً كسير الخاطر، لأن التاجر النذل رفض أن يعطيه اللمبة التي خاطر بحياته من أجلها، ما لم يدفع ثمنها ثلاثة فرنكات (حوالي سُدس ليرة سورية).
القصة انتهت، ولم يبق منها غير القول إنني صاحبها؛ نعم أنا هو ذلك الطفل الذي دفعته أمه في لحظة ظلامٍ يائسة ليأتيها بالضوء، ثم اكتفت، رحمها الله، وسعدت، بمجرد إيابه من بين أنياب الضبع حياً.
لا، القصة لم تنته، وما زالت تتوالى فصولاً، فالغرفة المظلمة الباردة تحوّلت خيمةً بلاستيكيةً حقيرةً تعصف بها الريح، وتغمُرها الثلوج في مخيمات عرسال والزعتري وأطمة، بينما صار للضبع اسم آخر هو الأسد، وتناسل عبد الرحيم، لتكمل سلالته الاتجار باللاجئين المعدمين، عبر الضغط عليهم، ليعودوا إلى أنياب الوحش الذي فرّوا منه.
والقصة، أخيراً، لن تنتهي بغير أن يُكمل الطفل الذي كنته، واستنسخته المآسي في فلسطين وسورية والعراق واليمن وليبيا ومصر، مشوار البحث عن الضوء والرجوع به إلى أمه، لتنير البيت والطرق والأزقة، فلا يعود الضبع يملك جرأة البقاء فيها، أو الاقتراب منها.
المصدر : العربي الجديد
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة