يا أنا
كتب بواسطة أ. منى مصطفى
التاريخ:
فى : قصص
1453 مشاهدة
انتهت امتحانات الفصل الأول للصف الثاني عشر الذي أدرُس به، وبدأت عطلة منتصف العام بعد فصل دراسي مزعج وحافل بالتعب والكد، ولم يكن التعب بسبب الاجتهاد في الدراسة كما يتبادر لذهنكم، بل بسبب تحكمات أمي في وقتي، فقد اعتادت أن تضع لنا جدولًا ينظم كل شيء في حياتنا حتى الترفيه، وما بقِي إلا أن تحدِّد عدد قهقهات الضحكة التي نضحكها، هكذا كنتُ أراها!
شعرتُ بسعادة كبيرة لأنني سأحظى بحرية لا مثيل لها؛ حيث ستذهب الأسرة للعمرة، وسأبقى في البيت وحدي، وذلك بسبب مشكلة في جواز سفري، تظاهرت أمامهم بالغضب في حين كنتُ في منتهى السعادة، وجلست أرتِّب لبرنامج ينبذ النوم، ويقول: أهلًا للسهر والمرح حتى يعودوا من رحلتهم، وكالعادة كثَّفت أمي لي النصح حول النوم والطعام والاعتدال في الإنفاق، ومع ثِقل نصائحها وكراهيتي لسماعها، فإنني استمعتُ لها هذه المرة في صمت دون أن أجعلها تبكي كالعادة من شدة جدالي معها؛ لتسير الأيام التي تفصلني عن برنامجي، فقد كنت أتعمَّد جدالها في البديهيات حتى تفقد أعصابها، فتُقسم أنها لن تعود للحديث معي، فأشعر بانتصار المحارب، ولكنها دائمًا كانت تكفِّر عن قسمها بعد أيام قلائل؛ لأنها بلا وعي كانت تعود للحديث معي!
وكنت أذهب لأصدقائي منتشيًا في اليوم الذي أتعارك معها فيه، وأصيح لهم: لقد انتصرت، سأريكم كيف أجعلها تكف عن معاملتي طفلًا لا يعي، فيرد كلٌّ منهم مهللًا لي ومرددًا: (بطل)، ثم يحكي موقفًا مشابهًا له مع أمِّه، غير أنهم جميعًا كانوا أقلَّ جرأةً مني، وقال أحدهم: أما أنا فلا أرد عليها؛ لكيلا تشكوني لأبي، ولكني فقط أرفع حاجبي الأيسر لها، وأنظُر لها نظرات حادة عنيفة، فتبدأ تعزف معزوفتها، وأنا أزداد في نظراتي البشعة التي تشبه الرصاص؛ حتى ترتكب أي سلوك عنيف ضدي، فأنتظر أبي أحكي له عما بدر منها دون أن أوجِّه لها كلمة واحدة، فيبدأ هو بالاعتذار لي ومكافأتي بالمال ويعاتبها، وأكون أنا أيضًا الفائز، وقد أعجبتني طريقةُ صديقي، وبدأت أجرِّبها وأدرِّب نفسي شيئًا فشيئًا على رفع أحد حاجبي بشكل مزعج، كنا ننظر لوالدينا على أنهما الطرف الذي يجب هزيمته في الحياة؛ لنثبت لأنفسنا أننا كبرنا وأصبحنا أقوياءَ، وكان غالب آبائنا يعملون وظيفتين، وفترة وجودهم معنا لا تسمح بمتابعة كل كبيرة وصغيرة.
جاء اليوم الموعود الذي كنتُ أعتبره أجملَ أيام عمري، ذهب الجميع وبقيتُ وحدي في البيت، فأرسلتُ لأصدقائي كلهم؛ ليتجمعوا عندي في البيت لنلعب ونمرح بلا قيود ولا أنظمة!
طلبت لهم عشاءً فاخرًا بمعظم المال الذي تركه لي والداي، وبقينا نعزف العزفَ الذي يُحبه صديقي أحمد، ودخل ياسر المطبخ؛ ليعد لنا قهوة تركيَّةً على طريقته، وقبل منتصف الليل ذهب الجميع واستسلمت لنوم عميق استيقظتُ منه بعد الظهر، فاتتني صلاة الصبح فلم أكترثْ، ولم أقْضها كما كانت ترشدني أمي، بل صليتُ الظهر فقط، ثم أرسلت لأصدقائي: هيَّا إلى ليلة جديدة أجمل! تجمَّعنا وقد أحضر ياسر معه الدخان، فأعجبني وأشعَرَني بالرجولة، وأنه لا فرق بيني وبين الكبار، وأنني لدي الجرأة أن أتحدث مع أكبر شخصية في حياتي بما أريد بلا حرجٍ، قلت ذلك لزملائي، فضحكوا وقالوا: كيف تتكلم مع مدرس الرياضيات الذي خصم منك درجتين في الاختبار القصير؟ فبدأت أتحدَّث وكأنه أمامي وأتطاول عليه والجميع يضحك، ثم شغل أحمد أغنية صاخبة، وعمَّ المرح وشعرتُ بسعادة عظيمة، غير أن البيت كله قد قُلب رأسًا على عقب، فطلبتُ منهم مساعدتي في تنظيمه، فقالوا: نحن ضيوفك وتركوني واحدًا تلو الآخر، وذهبوا، وأتى اليوم الثالث وقد نفِدت أموالي، فأرسلتُ لهم بذلك، وقلت لهم: العشاء اليوم عليكم، فلم يحضر أحد إلا ياسر، وليس معه شيء من طعام أو مال، بل طلب مني عشرة دنانير قائلًا: هي دَينٌ عليك! قلت: ماذا؟ أيُّ دَين، لم آخُذ شيئًا من أحد؟
قال: أنت شربتَ دخانًا مخلوطًا ببعض المواد المخدرة، وقيمتها خمسون دينارًا، كلٌّ منا عشرة!
قلت: كيف هذا؟ لم تخبروني، كيف تفعلون ذلك؟
بدأ صوتي يعلو وأوشكت على ضرب ياسر، فسارع وخرج وقال لي: أنت لست رجلًا! جلست في ضيق شديد، شعرتُ أن رجولتي تفتَّتتْ، وأموالي نفِدت، والبيت قذر جدًّا، ويحتاج إلى جهد لتنظيفه، أشعُر بصداع وغضب شديدين!
بعد أن استفقتُ من الصدمة أمسكت بهاتفي لأرسل لهم على المجموعة التي تضمنا لأُعاتبهم، فوجدتُ ياسر مشرف المجموعة قد حظرني! شعرتُ بضيق أشد مما كنتُ عليه، بدأت أُخرج غيظي في تنظيف ما أستطيعه في البيت، ثم أخرجتُ الحاسب الآلي الخاص بأمي، وقررتُ أن أحمِّل عليه ألعابًا حديثة مسلية، وأُخفيها في ملف خاص بي؛ بحيث لا تصل إليها أمي، وبالفعل نجحت في خطتي، وقضيت ليلتي هذه مستمتعًا بالألعاب حتى صلاة الفجر، ثم استسلمت لنوم عميق.
استيقظتُ لأجد نفسي وحيدًا معظم أصدقائي تركوني وحظروني من أجهزتهم، ونفِدت أموالي فاتصلتُ على والدِي في مكة قائلًا له دون مقدمات: إن أموالي نفِدت، فدَلَّني أبي على مبلغ كان قد تركَه في البيت بديلًا لي عند الحاجة دون أن يخبرني! فرحتُ بالمال، وفكرتُ أن أذهب إلى أصدقائي ونتعاتب ويعودوا للسهر معي كما حدث في اليومين السابقين، لكني تذكرتُ موضوع ثمن الدخان الممزوج بالمخدر، وما حدَث! فطردتُ الفكرة من ذهني، ثم قررتُ استكمال الألعاب التي حمَّلتها بالأمس، فتحت الحاسب لأستكشف كل الألعاب، غير أنني وجدت ملفًّا يحمل عنوان (يا أنا)، جذبني هذا العنوان أهي رواية تقرأها أمي، أم أنه كتاب تستعين به في تحضير دروسها، قادني الفضول لفتح الملف، فوجدت هذا الكلام قد كتبتْه أمي، قائلة:
يا أنا، اليوم أسجل حادثًا جديدًا حدث لي معك، كما سجلت سابقًا أول يوم ضحِكتَ فيه، وأول يوم مشيتَ فيه، وأول يوم خطت يدك فيه حرفًا، كنت أسجِّل تلك الأيام والأحرف تتراقص فرحًا بين يدي، أما اليوم يا أنا، فدموعي تكاد تمنعني من رؤية الأحرف التي أكتُبها، اليوم يا أنا أسجل أول يوم ترفع صوتك عليَّ فيه، وتُمسك بيدي، فتكاد مِن فرط غضبك تكسر عظامها، وما فعلتُ لك شيئًا غير أنني حاولت أن آخُذ هاتفك من يدك أثناء المذاكرة، والله يا بني ما دفَعني لذلك غير حزني على بصرك الذي يُسحب تدريجيًّا بلا نفع!
يا أنا، ما زلت أسجِّل بحروف من ألم حوادثك معي، اليوم تجرأت وأخذتَ المال من حقيبتي دون إذن وقد رأيتُك وتجاهلتُ، ثم سألتُك فأنكرتَ، هل كنتُ أقرأ عليك القرآن وأنت ما زلتَ جنينًا في بطني؛ لتكون يومًا ما سارقًا، هل حفَّظتُك الشعر صغيرًا لأبني لك عزةَ نفسٍ وإباءً عربيًّا لتكون اليوم كاذبًا!
يا أنا، ما زلت أسجل خطاك فوق سِني عمري، اليوم أسجِّل ما لم أتصوَّر أن أسجله يومًا، اليوم أسجل أنك نظرت إليَّ نظرة احتقار بلا سبب، غير أنك تريد أن تشعر برجولتك، فلم أتمالك نفسي وحاولت صفْعك، فكأن الصفعة وقعت على قلبي قبل أن تصل إليك، وكأنني تعمَّدت أن أجرِّب الألم على شغاف قلبي، وهناك صفحات كثيرة كلها تحمل أحداثًا كنتُ أراها رجولة وانتصارًا في حين أنها كانت عقوقًا وجهلًا.
وجدت أمي سجَّلت غالب الحوادث التي حدثت بيني وبينها، وجدت الألم والمرار يخرج من بين الأحرف، بقيتُ أقرأ كلمة يا أنا في مقدمة كل حادثة، وكأنها خنجر عتاب يخرج من بين ضلوعها، ويحمل نبرة صوتها الضعيفة، فيهتز قلبي وأشعر بالندم الذي ينهش قلبي، إن كل الحوادث هذه كنتُ أقرأها وكأنني أشاهدها كما كانت تحدُث، يا إلهي، كيف كنتُ بهذه الغلظة؟ كيف تحمَّلتْني أمي في صبر ودعاء وقليل من الغضب؟!
أكملت القراءة حتى وجدتُ آخر ما كتبتْه: (اللهم إنك تعلم أنني مريضة، وأن رحلة العمرة وطول الطريق قد يُودي بحياتي، لكني جئتك بنيَّة إصلاح ولدي، وأن تؤلِّف بين قلبي وقلبه، اللهم إنك أهديتَه لي دون أن أطلبه، فاهْده برحمتك واجعَله من عبادك الصالحين، وأبعِد عنه برحمتك أصدقاء السوء، اللهم إني قادمة لبيتك لأطلبك، وأعلم أنك أنت الكريم الذي لن ترُدَّني، اللهم إنك وحدَك تعلم مرضي الأخير، وتعلم خطورة سفري، فلا تردني يا ألله).
غارت بي الأرض، جلست أردِّد: أمي مريضة، أنا السبب، ما مرضها، وددتُ لو طرتُ إليها لأعتذر لها عن كل ما أغضبتُها بسببه، وددتُ لو قدَّمتُ لها وعدًا أكيدًا أنني أحبها وسأطيعها ما حييتُ!
اتصلت عليها، لم أستطع أن أذكر لها شيئًا، قلت لها: أريد أن أَهديك شيئًا ما يا أمي عند عودتك، فماذا تحبين؟
قالت: أنت يا صفي، أُريدك أنت يا بُني، إنني أسير هنا في شوارع مكة وأتفقَّد وجوه الصالحين، وما وجدتُ وجهًا شعرتُ بصلاحه إلا دعوتُ لك أن تكون خيرًا مما هو عليه!
أنهيت حديثي معها وبقيتُ أفكِّر في شيء يرضيها، فتذكرتُ إلحاحها عليَّ أن أحفظ سورة البقرة، فقررتُ حفْظَها خلال الأسبوعين المتبقيين على عودتها، لعل ذلك يمحو من قلبها الألمَ ويُخرج الغصَّةَ من أحشائها! وبالفعل استعنتُ بصديق لأبي ملتزم بالجلوس في المسجد من الفجر للشروق كل يوم، حتى حفِظتها على يديه في وقت قياسي!
لم أعُد أشعر بالوحدة والملل، لم أعد أشتاق لأصحابي، بل كرهتُ بلاهتهم، عادت أسرتي فاحتضنتُ أبي، وانكفأتُ على يد أمي أقبِّلها، لكنني متردد كيف أُخبرها أنني حفظت سورة البقرة كما كانت ترجو دومًا؟ ثم قررتُ الصمت، وأن أجعل معاملتي لها كما تحب!
ومن اليوم التالي لوصولهم جاء صديق أبي؛ ليسلِّم عليه وقصَّ على أبي حفظي سورةَ البقرة، وعلمتْ أمي وربطتْ بين حُسن استقبالي لها وبين دعائها، فسجدتْ لله شكرًا، مرددةً: أشهد أنك الله قريب سميع مجيب، أشهد أنك رحمن رحيم تجيب المضطر إذا دعاك!
قبَّلت رأسها وقلت لها: (يا أنا، سأكون ذلك الابن الذي كنتِ تقرئين عليه القرآن جنينًا، وتُسمعينه الشعر رضيعًا، وسأكون المسلم العربي الأبي).
أخذتني في حضنها مرددةً: (الحمد لله، الحمد لله)، وعيناها العسليتان غارقتان في دموعهما، ولكن بقي السؤال: ما مرض أمي؟ تسللتُ إليها يوم الجمعة قبل الصلاة مرتديًا أحسن الثياب ومتطيبًا برائحة العود، وكان اتِّباع سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم يُسعد أمي كثيرًا، فتهلل وجهُها عندما رأتْني ودعت لي بالخير، ثم ذهبت للمسجد! قابلت في المسجد ابن العم محمد الذي حفَّظني سورة البقرة، فوجدته في مثل عمري، غير أنه في مدرسة غير مدرستي، تعرَّفت عليه واتخذتُه صديقًا، فكان له عظيم الأثر في نفسي؛ حيث كان مثالًا في البر وحسن الخلق، فاكتفيتُ به صديقًا وفيًّا، ومنذ تلك اللحظة وأنا أتحرَّى مواضع رضا أمي وأبي، وأخفض صوتي في حديثي إليها، وأُلبي كل رغباتها، وسبحان الله الذي قلب قلبي إليها، فبات حديثها كالماء العذب الذي ينزل على كبد الصديان فيرويه، وتحوَّلت علاقتي بها من مجرد أم متسلطة كما كان يصوِّرها لي شيطاني بوازع من رفاق السوء الذين كنتُ أُصادقهم، تحولتْ علاقتي بها إلى علاقة صداقة ومصارحة وحب عميق، لا يزيده القرب ولا ينقصه البعد، فنلتُ رضاها وصارتْ لا تناديني إلا بقولها: يا أنا، وإن كنا بين الناس نادتني (صفي)، كم كان حُنوها يسعدني ونصحها يرشدني، شعرتُ برضاها عليَّ، فكأن الله عز وجل سخَّر لي الكون، فعلاقتي بالمعلمين أصبحت مثالية، ودرجاتي أخذت في الارتفاع، ولأن هذا كان يسعد أبوَيَّ، فقد عزمتُ على التفوق الدراسي حتى أُرضيهم، وبالفعل بعد توفيق الله المنان حصلتُ على مجموع يؤهلني لدخول الهندسة، واخترتُ قسم الحاسب الآلي الذي مكَّنني من العمل في البرمجة وما أشبه وأنا ما زلتُ طالبًا، فخففتُ قليلًا من الأعباء المادية على والدَيَّ، وعلمت أن رضاهما جنة يتَّسع لها صدرك، وينبسط بها رزقُك، فهما آية رحمة الله على هذه الأرض!
بعد ذلك اشتد المرضُ على أمي، واحتاجتْ إلى أن تركب دعامة في القلب، فكنتُ بجوارها، ورافقتها في رحلة علاجها حتى تعافتْ، وكنت أقرأ لها القرآن وما طاب من الشعر، فكان يسعدها حسنُ صوتي وتدبُّري لما نناقشه من معان، فكانت تقول: الآن لا يُفرحني طولُ العمر، ولا يُحزنني قِصَرُه، فقد ربيتُ رجلًا إن اختارني الله إلى جواره، سيكون سندًا لإخوته ومربيًا عالِمًا رحومًا، فكنت أمزَح معها وأقول لها: ممنوع أن تفارقينا إلا بعد أن تربي أولادي كما ربيتِني، لا مجال للهروب من هذه المهمة الصعبة، فتضحك ويُشرق وجهها، فأشعُر أن الدنيا باتساعها صارتْ بين يدي!
المصدر : الألوكة
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة