كاتبة
الزيارة الأخيرة
كتب بواسطة ثناء أبو صالح
التاريخ:
فى : قصص
1474 مشاهدة
تعالى صوتها بالترحيب عند الباب ..
وهي تنظر بقلق إلى عدد المرافقين الصغار لضيفتها، كانوا ثلاثة .. أولادها كلهم
وبعملية حسابية سريعة أدركت أنه سيكون لديها حين يكتمل الضيوف حوالي العشرين طفلا
يا إلهي .. عشرون طفلا ؟؟ فصل دراسي كامل تستضيفه في بيتها ؟؟
تذكرت كلام زوجها عقب الزيارة الماضية :
- لا بأس يا بنت الحلال، هي زيارات دورية بين المجموعة كلها، ولن يأتينا الدور قبل بضعة أسابيع أخرى
وها قد أتى الدور ثانية، بعد أن ازداد عدد المعارف وعدد أولادهم، وعليها أن تتمسك بأهداب الصبر، وتلتزم الصمت وترسم البسمة.. بل وعليها أن تظهر ترحيبها واستحسانها لكل ما يصدر من وعن هؤلاء ( الأحبة ) الصغار، مهما كان مخالفا لأبسط أعراف الأدب أو الذوق .. أو ليسوا ضيوفا .؟؟
وتعالى صوتها بالترحيب مجددا بالترحيب مع دفعة أخرى قادمة ..
صبر جميل والله المستعان ..
دقائق مرت سريعا واكتمل عدد الضيفات عشرا، وعدد أطفالهن عشرون بالتمام والكمال .
قامت بدور المضيفة البارعة على أكمل وجه..
فتحت غرفة ثالثة مجاورة للأطفال حتى لا يعكروا صفو جلسة النساء أو الرجال كالمرة الماضية ...
وأخرجت كل ألعاب أولادها – الذين تخطوا سن اللعب – ووضعتها تحت تصرفهم، وعادت إلى ضيفاتها تقدم أنواع المأكولات التي قضت اليوم السابق في تحضيرها، وتعاود الترحيب والترحيب مجددا ..
وجاملتها إحدى الضيفات قائلة : سلمت يداك يا أم علي، ليتك تنادين أولادي إلى هنا لأطعمهم معي، والله لقد ترددت في اصطحابهم، زوجي قال أننا سنسهر إلى وقت متأخر، ولا داعي لاصطحابهم حتى لا نثقل على الجماعة، لكني تذكرت حبك للصغار فأصررت على ذلك
وسارعت أخرى لتؤكد : أي والله .. أولادي جميعا متعلقون لك، دائما يسألون متى نذهب إلى بيت خالة أم علي ؟
وارتفع صوت ثالثة : الحقيقة أني لا أحب اصطحاب أولادي ليلا، لكن سعة بيتك شجعتني
وأردفت الرابعة : صدقيني نحن نحسدك – حسد غبطة اطمئني – لأن بيتك واسع وله حديقة.. أولادي محشورون في علبة كبريت، لا يصدقون أن يخرجوا منها..
ودار الحديث حول الأولاد المساكين وضرورة الترفيه عنهم .. ليقطع استرساله صراخ حاد يرتفع من الغرفة المجاورة .
وارتاعت أم علي وقفزت تلحق بها الأمهات .. إلى حيث الأولاد، لتجد أحدهم يصرخ ويده فوق عينه، وما كادت تسأله ما به، حتى سارعت أمه بالعتب واللوم وقد ألمّتْ بنظرة واحدة بما حدث : هداك الله يا أم علي، هل من عاقل يعطي الأطفال مثل هذه الألعاب المؤذية ؟
ردت أم علي محرجة : مؤذية ؟!! لكنها ألعاب أولادي .. ما عندي غيرها
= وهل من الضروري أن يلعبوا بألعاب ؟ هيا يا أولاد .. كفانا ما حدث وهيا إلى الحديقة
سارع الأطفال إلى حمل ما استطاعوا من طعام وشراب، وهرعوا إلى الحديقة مهللين فرحين ..
وانكفأت أم علي تتأمل الفوضى في الغرفة الخاوية .. أصيص الزرع المقلوب.. ساعة الحائط المائلة، الستائر العالقة بإطار النافذة.. فتات الكيك وبقايا الحلوى على الأرائك وهنا وهناك .. تنهدت ورددت في نفسها : لابأس ..ساعات تنقضي وأعود إلى الهدوء والسكينة..
وعادت إلى ضيفاتها اللواتي كن يتبارين في إظهار حرصهن على راحة وسلامة أطفالهن، وكيف أنهن يخترن الألعاب المناسبة.. وأن هذا الحدث كاد أن يودي بعين الصغير لا سمح الله .
واستأذنت أم علي منهن للقيام بواجب الضيافة للمرة الثانية، وربما الثالثة - وهي تغالب دموع الغيظ والحنق – فتقاليد السهرات العائلية تقتضي إبراز كرم صاحب الدعوة، وإعداد الأفانين المنوعة من الأطعمة والحلويات..
وإلا اُتهمت ربة البيت بالبخل ولاكت الألسن سيرتها في كل مجلس .
ودخلت المطبخ وما إن رتبت أطباق الحلوى المثلجة، حتى انهمر عليها رشاش ماء يغرقها من النافذة، وأطلت لترى أحد الأولاد قد أمسك خرطوم المياه يطارد به الصبية والبنات، وهم يفرون أمامه دون وعي ..لا يبالون أين يدوسون، حتى دخلوا أحواض المزروعات فأتلفوها، وخرجوا منها بكتل الطين فلوثوا الأرض ، والصراخ والضحك يتعالى مع الشكوى والبكاء ..
وصاحت أم علي تنبههم.. لكن صوتها ضاع في زحمة الصراخ المتعالي.. فاستدارت تعدو خارجا علّها توقف المهزلة..
ولحسن الحظ – أو ربما لسوئه – سبقها زوجها إليهم، فصاح بهم موبّخا وأمرهم بالعودة إلى الداخل، فالوقت متأخر والجيران نيام .
ودخلوا جميعا .. بأثواب مبللة تقطر ماء، وأحذية ملوّثة بالطين يشتكون للأمهات من عصبية ( عمو أبو علي ) التي أفسدت بهجتهم .
ووقفت أم علي بباب الغرفة - بثوب مبلول وخصلات شعر ملتصقة – ذاهلة، تقابل نظرات الاتهام وألفاظ الحنق واللوم مرة أخرى ..
- الله يهديك ، ولدي ما زال يعاني من الانفلونزا ويأخذ هذا الدش ؟؟
- ليتني لم أر هذا المنظر.. ثوب ابنتي الجديد كيف سأنظفه الآن ؟؟
- قلت لزوجي أني لا أرغب في المجيء لكنه أصر، ليتني لم أحضر
وانبرت أخيرا إحداهن – ولعلها كانت الأقل تضررا – في محاولة لتهدّئة الموقف : - بسيطة يا جماعة، لا تكبّروها.. أمامكم الحمام نظفوا الأولاد .. هيا لا داعي لهذا كله
وكأنها نبهتهن إلى حقيقة غابت عن الأذهان، فتدافعن نحو الحمامات يتخاطفن المناشف والأمشاط، ويتبارين في تنظيف الوجوه والملابس، ويرددن عبارات السخط والاستياء ..
وينتهز أحد الصغار الفرصة، فيغمر يده في كرسي الحمام، يرشق ماءه بسعادة بالغة، فتُجنّ أمه وتحمله خارجا والماء يتقاطر من أصابعه.. وأم علي تتبعها بفوطة نظيفة أخرى
وقبل أن ينتهين .. تعالت أصوات الرجال تنادي .. فقد حان وقت الرحيل
وهمست أم علي بصوت واهن وهي تراهنّ يستعددن للمغادرة :
- يا جماعة لا يصح، لم تتذوقن بعد الحلوى والكنافة
وارتفعت الأصوات مختلط : شكرا يا حبيبة .. أكلنا ما فيه الكفاية.. لا داعي للإثقال أكثر ..
- وتلحّ أم علي وفي ذهنها صورة أقداح الحلوى الذائبة، وصينية الكنافة المبلولة المشوّهة، لكنهن أعفينها حتى من أكلها.. وخرجن وأصوات التوبيخ تدوّي في الشارع الساكن الخاوي .
وقضت أم علي ساعات الصباح الأولى تنظف الغرف والحمامات، والسجاجيد والأرائك.. وتقف حائرة أمام أصناف المأكولات المتبقية، وكيف ستتسع لها الثلاجة ؟
بينما انهمك زوجها في ترميم أحواض المزروعات، وتنظيف الحديقة، وإعادة الأمور إلى نصابها ..
وكل منهم يرجو في سرّه أن تكون هذه الزيارة .. الزيارة الأخيرة .
• حقيقة قد نتعامى عنها، والمبالغة مقصودة لتوضيح الرؤية .. وبانتظار آرائكم
# بقلمي - من كتيّبي " المرايا "
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة