بوز المدفع
رائحتها العطرة سبقتها إلى موقف الحافلات... تَسابق العاملون هناك على حمل حقائبها ووضعها في الصندوق المخصَّص لها، وعندما شارفوا على الانتهاء تناول صديقها يدها بحنان قائلاً: "دعيني أعاونكِ على الصعود".
بغُنج ودلال أخذت تتهادى فوق عتبات الحافلة الثلاث وكأنّها أميرةٌ فوق سلالم إحدى القصور، ومع كل خطوة كانت تنورتها تتمايل يَسرةً ويَمنةً كاشفة للعيون الجائعة ما تحتها.
"ما هذا؟"، تساءلت بقرَف، بينما عيناها تقومان بجولة استطلاع في أرجاء الحافلة، وتصاعدت لهجة الازدراء والاحتقار حينما وقعت عينُها على (سمر) المنقَّبة التي تجلس في المقعد الأمامي يجاورها شابٌّ صغير السن؛ همست لصديقها بغرور وصلف: "ما هذه الأشكال الغريبة العجيبة؟"، تململت (سمر) في جلستها؛ فعبارة المرأة الحادة اخترقت أذنيها وقلبها بقوّة كالسيف المسنون، ولكنها مع ذلك لم تكترث كثيراً، فقد تعودت سماع مثل هذه التعليقات، وأكملت مطالَعَةَ كتابها الذي يرقد في حِجرها كالطفل الصغير.
"ما رأيكِ بالجلوس هنا عزيزتي؟"، أشار الرجل بيدٍ إلى المقعد الأمامي بينما يده الأخرى تواصل التربيت على كتفيها بلطف؛ نظرات فزعٍ فرّت من عينيها، وأجابت مستنكرة: "لا.. لا أحب الجلوس هنا... بل في الخلف، في الخلف... لا يعرف المرء ما قد يصيبه، قد نتعرّض لحادثٍ ما؛ فَلِمَ نكون في بوز المدفع؟".
"سبحان الله؛ عجيب هذا الحرص من قِبَل الناس على الحياة الدنيا مع علمهم أنها دار فناء، والأعجب تهاونهم بالحياة الآخرة والاستعداد لها مع أنها دار بقاء؛ صدق قول الله تعالى فيهم: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى}"؛ أسرّت (سمر) لنفسها وبصرُها لم يفارق صفحة الكتاب.
- "أَبِكَِ شيء أمي؟"، استفسر ابنها الجالس بجوارها.
- "لا، أبداً. كنت أقرأ أبياتاً من الشعر أعجبتني..."، وانقطع حديثهما عندما صعد السائق إلى الحافلة مؤْذناً بانطلاقها.
{سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ}. أغمضت (سمر) عينيها ولسانها يُدندن بدعاء الركوب.
فجأة تذكّرت محمداً!..
التفتت إلى ابنها تتأكد من أنه يتلو الدعاء مثلما تفعل، وعندما اطمأنت عاودت إغلاق عينيها متمتمة: {وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ}، ثم استسلمت بعدها لذكر الله، مما أنعش قلبها الظَّمآن.
نصفُ ساعة مرّت يعكّرها صوت الأغاني من المذياع، ولكن (سمر) تبدو كالطرشاء لا تسمع شيئاً، تسبح في ملكوت خاصٍّ بها؛ فمرةً تتنقّل بين دفَّتيِ الكتاب الذي أحضرته معها ليؤنسها في سفرها، ومرة تغرق في تلاوة الأذكار واستحضار ما حفظت من آي الذكر الحكيم. أما ابنها فملامح وجهه تدل على أنه مستمتع بغفوة بسيطة على وقع الأناشيد التي ينبعث صوتها من جهازه الصغير.
- فجأة تمايلت الحافلة بقوّة كشجرة هَرِمة تواجه إعصاراً شديداً... صرخ السائق صرخة عظيمة انخلعت لها قلوب الركّاب وأخذ يصيح كالمجنون: "فقدتُ السيطرة على الحافلة... فقدتُ السيطرة".
"يا ألله، لطفك ورحمتك"، آخر عبارة تدحرجت من فِي (سمر) قبل أن تفقد الوعي...
لمْ تستفق إلا على صوت السائق وهو يصيح بأعلى صوته: "هل أصاب أحداً منكم مكروه؟... هل أصاب أحداً منكم مكروه؟"...
عندما اطمأنّ عليها وعلى ابنها انطلق بين الركّاب يتفقدهم الواحد تِلو الآخر... النحيب والنُّواح اللذان تصاعدا من الخلف دفعا الجميع للتوجه إلى هناك فوراً ليفاجؤوا بالحادث المروِّع... سيارة اصطدمت بمؤخرة الحافلة، وكانت الضحية: (الراكبة) التي فرّت من "بوز المدفع" لتلقَى حَتفها في آخره.
أمسكت (سمر) بذراع ابنها وهو يعاونها على الترجل من الحافلة المنكوبة، ولم تنسَ - رغم أنها ما زالت تحت وقع الصدمة - أن تقبض بيدها الأخرى على الكتاب، وسارت كالعمياء باتجاه حافلة أخرى تُقِلّهم.
لاشعورياً فتحت دفتَي الكتاب حيث توقفت عند أبيات الشعر التي أعجبتها... امتزجت دموعها بالكلمات التي غابت معالمها قليلاً، وبصعوبة أخذت تقرأها بصوتٍ خفيض:
يأتي القضاءُ بما فيهِ لمدَّتهِ فكلُّ ما لمْ يكن فيه فمَحظورُ
لا تَكْذِبَنَّ، وخيرُ القولِ أصدَقُهُ إنّ الحريصَ على الدُّنيا لَمغرُورُ
[1] بوز المدفع: مَثَل شعبي عند اللبنانيين والسوريين يقول: فلان في بوز المدفع، أي في المقدمة والواجهة في الأزمة.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن