دروس للعاملين من سيرة الشيخ أحمد ياسين
تعيش الأمةُ المسلمةُ اليوم لحظةً فارقةً في تاريخها، فبعد أكثر من قرن من الزمان تحت قيود الاستعمار ونير الاستبداد، تحاول الأمة اليوم بثوراتها كسر القيود، متطلعة إلى الاستقلال والحرية. وإني أحسب أن من أهم الأسباب التراكمية لثورات الشعوب المسلمة في هذا العقد هي جهود المصلحين والمجاهدين من أبناء الأمة خلال القرن المنصرم، تلك الجهود التي سعت إلى حفظ دين الناس، والحفاظ على الهوية الإسلامية في حس المسلمين ووجدانهم، وعملت على تشكيل تيار إسلامي واسع عريض من أبناء الأمة، يحملون الوعي وينشرونه بين الناس.
هذا التيار الذي أحيا قضية الجهاد من أجل الاستقلال ومن أجل إقامة الدين في واقع الحياة، فقاوم الاستعمار في صورته العسكرية، ورفع لواء مقاومة المحتل الصهيوني المغتصب لقبلة المسلمين الأولى، وبذل وقدم في سبيل ذلك الدماء والأرواح. وإنه لحريٌ وجدير بهذا التيار اليوم أن يكون على قدر المسؤولية، وأن يضطلع بالمهام التي يقتضيها الواقع الذي آلت إليه ثورات الشعوب المسلمة، خاصة بعد أن أخفقت الجماعات الإسلامية التقليدية في قيادة حراك الأمة، بل وكانت في بعض البلدان سببا في تراجع وانحسار هذا الحراك أمام الثورة المضادة التي يحيكها الاستعمار وأدواته من الحكومات الوظيفية والتيارات العلمانية. إن مما تحتاجه الحركة الإسلامية في هذا الوقت هو دراسة تاريخ النماذج الناجحة من أبناء الأمة الذين تمكنوا من تغيير موازين الصراع بين الأمة وأعدائها، واستطاعوا صناعة الفارق في المعادلة لصالح الأمة في اللحظات الفارقة في تاريخها، للاستفادة من سير هؤلاء الرجال في صناعة التغيير الذي نسعى إليه.
وفي هذا المقال محاولة يسيرة لإلقاء الضوء على بعض المشاهد في حياة رجل عظيم من رجالات المسلمين في هذا الزمان، و استخراج بعض الدروس التي ينبغي أن نستفيد منها في واقع الحركة الإسلامية اليوم، وسأكتفي في هذا المقام بذكر (7) صور من حياته فقط، مع درس يسير من كل صورة، وإلا فلو ذهبت أستقصي الدروس والعبر من حياته الطويلة العامرة بالعمل والدعوة، لاحتاج الأمر إلى تسويد المجلدات في سبيل ذلك.
الشيخ القائد الشهيد أحمد ياسين: قعيد ذو همة أحيا الله به أمة
(لا يعرف اليأس طريقاً إلى قلبي، وأملي أن يرضى الله عني، ورضا الله بطاعته، وطاعته هي الجهاد).
1- الشيخ ياسين في مهنة التدريس:
– بعد انتهائه من الثانوية العامة، عمل الشيخ في مهنة التدريس، ولكنها لم تكن بالنسبة له مجرد وظيفة يكسب من ورائها مبلغاً شهرياً من المال يقيم به نفسه ويعين أسرته، إنما كانت رسالة تعليم وتربية للنشء المسلم على حمل هم القضية والالتزام بالإسلام، فعمل على ربط الطلاب بالمسجد، وأنشأ فيه مكتبة، وجعل الطلاب يشرفون عليها لزرع قيمة تحمل المسؤولية، وتعويدهم على أمور القيادة والإدارة، وكان يقيم للطلاب دروساً وحلقات في المسجد بعد انتهاء وقت الدراسة، يغرس فيهم قيم الإسلام، ويربيهم على الارتباط بالله عز وجل، لدرجة أن الشيوعيين في ذلك الوقت اشتكوه إلى مدير المدرسة بعد أن رأوا أولادهم لا يتركون صلاة الجماعة في المسجد، ويحافظون على صيام الاثنين والخميس!
– وهكذا يجب أن يكون حال المسلم صاحب القضية، يحمل همها أينما حل وارتحل، يتحرك بها ولها، وحيثما نزل واستقر نفع الله به، وجعله سبباً في يقظة الناس من بعد غفلة، وإحياء من بعد موت، متمثلاً قول الله عز وجل: (وجعلني مباركاً أينما كنت).
فالشاب المسلم في الجامعة، يتوجب عليه أكثر من مجرد الاهتمام بالدراسة والتفوق، فهو ليس شاباً عادياً، بل صاحب قضية يسعى لنشرها وحشد الناس عليها لتبنيها ونصرتها، لذلك عليه أن يحرص على أن يكون مؤثراً في محيطه، فينصح ويذكر ويوجه غيره من الشباب اللاهي الغافل عن سبب وجوده في الحياة، فليأخذ بأيديهم ويدلهم على الطريق، وأدوات ذلك ووسائله كثيرة ومتنوعة.
فليأخذ كلٌ بما يناسب واقعه ومحيطه وحال الشباب من حوله، وليستعن بالله ولا يعجز، وهذا ينطبق على عموم من عرف الطريق وحمل الهم، لا يصح أن يكون بطالاً بل عمل وحركة للدين وبالدين، في المسجد ومحل العمل، في السكن وبين الجيران والأهل والأقارب، داعياً مذكراً ومصلحاً موجهاً، ناشراً للوعي ومزيلاً لغشاوة الغفلة عن قلوب الناس.
ــــــ كذلك فإن قضية الاهتمام بالنشء الجديد والجيل الصاعد، من أهم ما ينبغي أن يركز عليه العاملون لدين الله عز وجل، فهؤلاء هم رجال المستقبل، وغرس الإسلام لمعركة الغد، وإننا لنأمل أن نكون نحن جيل التمهيد، وأن يكون الجيل القادم هو طليعة جيل التمكين، وإن الراية التي يحملها العاملون للإسلام اليوم، في حاجة إلى إعداد قلوب مؤمنة، وعقول نيرة، وسواعد مفتولة، لتحمل الراية وتبقيها عالية خفاقة يفيء إليها الناس، وهكذا تنتقل راية الحق من جيل إلى جيل، حتى يأتي وعد الله.
ـــــــ ومن الجدير بالاهتمام كذلك، إدراك أن هذا الجيل الذي نحن بصدد الحديث عنه، يواجه – هو ومربوه – تحديات لم تعرفها الأجيال الماضية من أبناء الحركة الإسلامية، ونظرة واحدة اليوم على مواقع التواصل يدرك من خلالها المرء إلى أي مستوى وصل حال الناس من الجهل والبُعد عن دين الله عز وجل، فقد صار الناس يجادلون في العقيدة، ويردون أصول الدين ويستنكرونها، كما انتشرت فتنة الإلحاد، وكثر إلقاء الشبهات على الجيل الصاعد بشكل لم يكن من قبل.
وهذه التحديات تزيد المهمة صعوبة على الواقفين على ثغر التربية والإعداد، لذلك وجب على الحركة الإسلامية أن تولي اهتماماً بالغاً بهذا الثغر العظيم إنفاقاً وبذلاً وبحثاً، وتوقف عليه أهله والأجدر به، ولنعلم أن التفريط في ذلك تفريط في القضية والرسالة، وخيانة للدين والأمة.
2- الشيخ ياسين، العابد التقي:
– يقول الصحفي ياسر البنا عن لقائه بالشيخ ياسين من أجل إجراء حوار صحفي معه: “كان أكثر ما يشد الانتباه إلى الشيخ تدينه الشديد وتقواه، حيث كان يقدم الصلاة والعبادة على كل شيء، ولا يقبل أن يشغله عن عبادته أي لقاء صحفي مهما كان”.
وقال الشيخ ياسين عن نفسه في سياق حديثه عن فترة سجنه: “رغم مرارة السجن على كافة الأصعدة إلا أن الإنسان المؤمن يجد في السجن متعة كبيرة، فهو يخلو مع الله سبحانه وتعالى، يناجيه ويتعبده، إن أعلى معنويات حياتي كانت داخل السجن، حيث أكملت حفظ القرآن الكريم، واطلعت على الكثير من كتب التفسير والحديث والفقه وأصوله، وكنت أقرأ أربعة أجزاء يومياً في صلاة السنن”.
قلت: لعمري هذا حال المؤمن الصادق الذي فهم عن الله ورسوله فعلم كيف يستجلب توفيق الله وعونه. إن الناظر إلى حال الكثير من الكوادر العاملة للإسلام اليوم يلحظ تقصيراً في جانب العبادة، من تأخير للصلاة وانشغال عنها، أو اقتصار على الفرائض بحجة كثرة المشاغل وازدحام جداول الأعمال!
وأي عمل أولى من صلاتك وقيامك وقرآنك؟! هذا هو زادك ووقودك لاستكمال السير على الطريق، تلك العلاقة المقدسة الخاصة التي تبنيها بينك وبين ربك هي مجلبة حب الله وتوفيقه ورضاه، هي أكبر سبب لضبط البوصلة واستجلاب المعيّة الإلهية في سيرك وعملك وحركتك، وإلا فالضياع والهلكة، نسأل الله عز وجل الهمة والتوفيق، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
3- الشيخ ياسين والعمل الحركي:
ـــــــ في عام ١٩٦٨م وعمره حينئذ ٣٢ سنة فقط، أصبح الشيخ ياسين على رأس حركة الإخوان المسلمين في قطاع غزة، فكان من مظاهر عبقريته في القيادة والإدارة، أنه نحا نحو التجديد وضخ دماء شابة في الحركة، فاستبدل بمجالس النقباء قيادات شابة، ذات دافعية كبيرة وحماس شديد للعمل الإسلامي، أما القدامى فوجههم للجان الزكاة وغيرها مما يناسب سنهم وخبرتهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
ويا ليت قادة العمل الإسلامي المتصدرين لقيادة الحركات الإسلامية اليوم ينحون هذا النحو، فاللحظة الفارقة التي تمر بها الأمة اليوم مختلفة عما كان عليه الواقع في العقود الأخيرة، وإن هذه الانتفاضة التي شملت الأمة في ثورات الربيع العربي في أمس الحاجة إلى قيادات شابة واعية، تستثمر هذا الحراك، وتنتشر حركة ودعوة وإصلاحاً في بحر الأمة الواسع، بأدوات وأساليب جديدة تناسب الواقع الجديد، وتواكب التغيرات الاجتماعية والثقافية التي تحدث اليوم.
إن جيل الشباب الواعي المتحمس للعمل الإسلامي اليوم خليق وجدير أن توكل إليه مهام القيادة، وواجب على القيادات التاريخية أن تدرك اللحظة ومتطلباتها، وأن تفسح المجال للدماء الجديدة لتتدفق في عروق الحركة الإسلامية لتعيد نهضتها من كبوتها التي ألمّت بها بعد موجة الثورات المضادة، وفشل القيادات القديمة في التعامل مع الأحداث بما تقتضيه الأحوال والظروف، وليبقَ دور هذه القيادات حاضراً في النصح والمشورة للاستفادة من خبراتهم وعلاقاتهم، وهذا لعمري السياق الطبيعي لحركة الأمم التي تسعى للبقاء، أن يتسلم اللواء جيل من بعد جيل، لتبقى الراية مرفوعة حتى يكتب الله النصر للأمة بعد طول جهاد ومقاومة.
وفي الحركة كذلك:
ـــــــ في عام ١٩٨٧م اندلعت الانتفاضة الفلسطينية التي اشتهرت بانتفاضة المساجد، يقول عنها الشيخ: “الأحداث دائماً تحتاج من يقودها ويستثمرها، فالانتفاضة كانت حدثاً عادياً وانطلقت من جباليا، لكن ولأنه ليس ثمة تنظيم في جباليا فسرعان ما هدأت الأمور فنقلناها إلى الجامعة، ولما أغلقت إسرائيل الجامعة نقلناها إلى الشوارع، وهكذا نقلنا الحدث العادي إلى انتفاضة كبيرة بتنظيمنا).
قلت: وهكذا ينبغي أن تعمل الحركة الإسلامية على صناعة حراك الأمة وإدارته بطريقة تحافظ على زخمه، وتبقي الطواغيت في حالة استنفار واضطراب وقلق على الدوام. إن هذا الاستمرار هو الذي يستنزف العدو، ويجعله غير قادر على مواجهته بسياسات مدروسة تثمر نتائج إيجابية له، تؤدي إلى القضاء على الحراك.
ولكن للأسف الشديد، إن سياسات الكثير من قيادات الجماعات الإسلامية التقليدية تعمل على عكس ذلك، فكم رأينا من قرارات لهم أسهمت في القضاء على الحراك في بلدان كثيرة، وساعدت على استتباب الحكم للحكومات الوظيفية، بحجة الحفاظ على الدولة، ومخافة حدوث فوضى في البلاد، ولقد رأينا كيف قُضِيَ على الحراك العملي الفعال في مصر من قبل القيادات التاريخية، بحجة الخوف على سُمعة الجماعة كي لا تصنف دولياً بأنها جماعة إرهابية، وأصبح صنم الجماعة والحفاظ عليها -ولو عاجزة أو شبه ميتة- مقدم على مصلحة الأمة، التي تقتضي ضرورة العمل على كل وسيلة تسهم في إحيائها ونهضتها من أجل المقاومة المستمرة، حتى إسقاط الحكومات الوظيفية العميلة وتحقيق الحرية والاستقلال.
4- القدرات التنظيمية للشيخ:
برع الشيخ أحمد ياسين في تنظيم التكتلات الإسلامية، وإنشاء المؤسسات التربوية والإرشادية، بالإضافة إلى تجهيز وإعداد المجموعات الأمنية والعسكرية لمقاومة الاحتلال الصهيوني، ولقد وصف تنظيم الحركة بقوله: “كان عملنا جماعياً شورياً فلم يتأثر بغيابي، بل ظل التنظيم في حالة الإعداد كما هو، وكانت اعترافاتي واعترافات من سبقني إلى الاعتقال منسجمة وتدل على أننا مجموعة صغيرة ولا زلنا في البداية، فلم يتوقع الاحتلال أن يكون وراءنا تنظيم آخر لم يكتشفوه، وبعد خروجي من السجن ظللت سنة في إجازة من التنظيم كي لا يتتبعني اليهود، ولما عدت إليه عدت جندياً).
إن هذا النص الصغير على لسان الشيخ مليء بالدروس التي لو ذهبنا نستقصيها لطال بنا المقام، ولكن حسبنا الإشارة إلى بعضها. إن الشورى في الإسلام ركيزة أساسية من ركائز الحكم، وبالتالي من ركائز العمل الجماعي، إنها أمر الله لرسوله صلى الله عليه وسلم، فهي في حق من دونه أوجب وألزم، إن العقلية الفردية الوحدوية لا تصلح لقيادة العمل الإسلامي، ولا يمكن أن تثمر نتائج فعالة على الأرض، فأنى لفرد اليوم أن يلم بكل جزئيات الواقع واحتياجاته؟!
والشورى ليست عملاً صورياً شكلياً كما يمارسه البعض، بل هي عبادة ينبغي أن يتمثل فيها العبد مراد الله عز وجل، وأن يقصد بفعلها الوصول إلى أفضل ما ينصلح به الواقع، فهذا أجدر أن يوفق ويهدي لأرشد السبل وأقومها وأصلحها، لا أن يضمر في نفسه القرار، ثم يستشير الناس ذراً للرماد في العيون، فهذا أبعد عن التوفيق.
إن الشورى الحقيقية تصنع كوادر فاعلة مشاركة في صناعة القرار، متحملة لنتائجه برجولة ومسؤولية، كما أن الجماعة القائمة على الشورى الحقيقية أجدر ألا تنهار بتغييب رأس الجماعة بقتل أو اعتقال، كما أشار إلى ذلك الشيخ ياسين في تجربته مع الحركة. كذلك نستشف من النص المذكور آنفاً إلى أي مدى كانت الحركة تأخذ بأسباب الحيطة والسرية، وتحافظ على أمن المعلومات والأفراد.
فالعدو الصهيوني لم يستطع أن يكشف أو يعرف بوجود التنظيم الرئيسي على الرغم من اعتقاله لبعض الأفراد على رأسهم أحد رؤوس التنظيم وهو الشيخ ياسين، إن وجود سيناريو معد مسبقاً ومتفق عليه من قبل جميع الأفراد، وانسجام رواية كافة المعتقلين لهذا السيناريو أسهم في خداع العدو وإيهامه بأنهم مجموعة صغيرة محدودة في بداية عملهم، وأنه باعتقالهم قد كشف أمرهم وقضى عليهم.
لنقارن هذا بحجم الكوارث التي تحدث للتنظيمات والتشكيلات أو المجموعات الصغيرة بمجرد اعتقال أحد أفرادها اليوم، نجد أنه في بعض الأحيان يسقط التنظيم كله، ويتم الوصول لجميع أفراده أو أغلبهم، ذلك لغياب أو ضعف الخطط الأمنية ووسائل حماية الأفراد والمعلومات، إن هذا الدرس من أهم ما ينبغي أن تتعلمه الحركة الإسلامية من هذه التجارب الفاشلة المريرة، والتي راح ضحيتها شباب من أطهر وأزكى رجالات الأمة في هذا الوقت -نحسبهم كذلك ولا نزكي على الله أحدا-، حري بمن يسعى للعمل تحت سلطان الحكومات الوظيفية أن يجعل السياج الأمني لحماية الأفراد والمعلومات هو أولى وأول اهتماماته، حتى لا نعيد نفس الأخطاء، وتذهب المزيد من الجهود والدماء سدى.
5- من مظاهر ثبات الشيخ ياسين:
نشرت صحيفة هآرتس الإسرائيلية لقاء مع ضابط الاستخبارات الرئيسي لمصلحة السجون الإسرائيلية سابقا (تسفيكا سيلع)، وهو مستشار نفسي وعميد سابق في الشرطة، وكان بحسب قوله، الوحيد الذي التقى الشيخ الشهيد ضمن لقاءات أسبوعية متتالية طيلة ثلاث سنوات من فترة اعتقاله، فكان مما قاله هذا الضابط في حواره مع الصحيفة عن ظروف اعتقال الشيخ: “لقد اعتقلناه في سجن هداريم في شروط قاسية جداً، بل أذقناه الموت وحرمناه الزيارات، وعزلناه طيلة خمس سنوات في قبو بلغت درجة حرارته أحياناً في الصيف إلى ٤٥ درجة، وبرد متعب في الشتاء، وامتنعنا عن تنظيف القبو”. انتهى كلامه.
رغم هذه الظروف القاسية للغاية، وكون الشيخ الشهيد مقعدًا ويعاني من عدة أمراض مع تقدمه في العمر، إلا أنهم كانوا عندما يساومونه على الخروج كان يرد عليهم قائلاً: “لو اشترطتم عليّ مقابل الإفراج أن آكل البطيخ لرفضت”. يا لعظمة هذا الرجل!، وما أعظم استعلاءه وسمو نفسه بالإيمان والعقيدة والارتباط بالله عز وجل.
إنه درس عظيم في عزة المسلم وإبائه واستعلائه على عدوه، وفي ثباته على مبادئه العليا وقيمه السامية التي تجعله يرفض الخضوع لأي شرط أو قيد للعدو مهما كان بسيطاً، وقد رأينا كم من نهايات مأساوية لشخصيات وحركات انزلقت في هاوية التنازلات، بدأت باليسير ثم لم تتوقف إلا في قاع الهاوية.
إنه وبعد طول مدة الصراع مع عدونا لم يعد من المقبول ألا نفهم حتى اليوم أن سلم التنازلات مع العدو لا نهاية له، وأن من يساوم على حساب دينه ومبادئه لن يبقى له ما يتمسك به بعدها، ولن يكون لاستمرار مقاومته معنى، ولقد أوضح المولى جل وعلا قاعدة تأصيلية في هذا الباب ينبغي ألا نغفل عنها في سياق تعاملنا مع عدونا حيث قال جل ذكره: “ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم”، فمن ظن أنه يمكن أن يسترضيهم ببعض التنازلات مقابل أن يحصل على رضاهم فهو واهم، فلن يرضوا منك إلا بالانسلاخ التام عن حقيقة دينك، وبتركك الكامل لهدفك الذي خُلِقت لأجله، وهو السعي لإقامة دين الله في الأرض، وإيصال رسالة السماء للعالمين.
فليكن إذا الصبر على الطريق، والأخذ بالأسباب الشرعية المتاحة، والمناورة في حدود مراضي الله عز وجل، مع السعي لعدم تمكينهم من مقاتلك ونقاط ضعفك. وقد صدق الشيخ محمد الغزالي رحمه الله في وصفه للرجال حين قال: “إن الينبوع الذي تسيل منه مخايل الرجولة الناضجة هو الذي تسيل منه معاني اليقين الحي، وإذا وجدت الصبر يساوي البلادة في بعض الناس، فلا تخلط بين تبلد الطباع المريضة وبين تسليم الأقوياء لما نزل بهم، وأول معالم الحرية الكاملة ألا يضرع -يذل-الرجل لحاجة فقده”.
6- استشهاد الشيخ: من عاش على شيء مات عليه
في قصة استشهاد الشيخ رحمه الله دروس عظيمة كسائر حياته المباركة، هذه الحياة التي كرسها الشيخ للعمل لدين الله عز وجل، وظل طوال تلك الحياة يرجو الشهادة ويسعى إليها، فمن أقواله: “نحن طلاب شهادة، ما نطلبش الحياة الدنيا، الحياة الأبدية هي التي نطلبها مش حياة الدنيا التافهة، عشان هيك لا نخاف من هذه التهديدات، بل تزيدنا قوة وإصراراً على المشوار الطويل من أجل النصر والتحرير إن شاء الله). فكيف إذن كانت نهاية هذه الحياة الحافلة بالبذل والفداء والجهاد؟
قبل استشهاد الشيخ بيومين اثنين أصيب بنوبة التهاب رئوي حاد، أدت إلى صعوبة شديدة في التنفس، نقل على إثرها إلى المستشفى لتلقي العلاج، إلا أنه أصر على مغادرة المستشفى بعد تلقي العلاج الإسعافي، مخافة أن يستهدف العدو الصهيوني المشفى المكتظ بالمرضى في كل الأقسام، على أن يكمل العلاج في منزله.
وصبيحة يوم الأحد -يعني قبل استشهاده بأقل من ٢٤ ساعة- التزم الشيخ المنزل، وظل في حالة صحية بالغة الصعوبة، لم يستطع معها تناول الطعام رغم حاجته للدواء، وفي هذا اليوم الأخير لاحظ مرافقوه زيادة في نشاط طائرات الاستطلاع فوق حي الصبرة الذي يقع فيه منزل الشيخ، فقرر مرافقو الشيخ نقله لمكان آخر للمبيت فيه بعد صلاة العشاء في مسجد المجمع الإسلامي القريب من بيت الشيخ.
لكن بعد صلاة العشاء فوجئ المرافقون للشيخ بأنه قرر أن يعتكف هذه الليلة في المسجد ويغادر بعد صلاة الفجر، ولم تفلح محاولاتهم لإثنائه عن قراره هذا، فقد كانت تلك إرادة الله عز وجل وتدبيره لعبده أحمد ياسين، أن تكون آخر ليلة في حياته اعتكافاً في المسجد، قضاها في تهجد وتسبيح طوال الليل، ثم أُذِنَ لصلاة الفجر، فصلى الشيخ صلاته الأخيرة، ثم خرج بعدها من المسجد لتأتيه صواريخ العدو الصهيوني، فيرتقي إلى ربه شهيداً -نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحداً-.
إنه كرم الله عز وجل لعبده الذي قضى حياته مجاهداً في سبيل نصرة دينه أن يختم له بأعظم ميتة في الدنيا، الشهادة في سبيل الله، لقد كان أهل الشيخ وأحبابه من حوله يرون في نوبته المرضية الأخيرة نهاية الشيخ المسن، لكن يأبى الله إلا أن يكرمه بالميتة التي تمناها طوال حياته، ومن الإشارات والرسائل أيضاً أنها جاءت بعد ليلة أحياها في التهجد والذكر، وختمها بصلاة الفجر في جماعة، وكأنها رسالة لنا جميعاً أن تلك المواطن هي مصانع الرجال، وزاد الأبطال، وسر العظمة والرفعة، وسبيل النصر والتمكين.
رحم الله عبده أحمد ياسين وألحقنا بقوافل الشهداء والمصلحين
المصدر : مجلة كلمة حق
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة