رحلة بين الحياة والموت!!!
تسارعت الأنفاس شوقاً للّقاء، وازدادت المشاعر لهفة وحنيناً، فبعد غياب دام لشهر ونصف تقريباً قررتُ أخيراً أن أعود إلى بيتي، وأحتضن ابني الصغير، وأقبّل رأس أمي وأسمع منها كلمة الرضا من غير واسطة، تلك الأنفاس التي أهدتني روحَ الحياة وجعلت لحياتي جمالاً ومعنى.
رتبنا الأمتعة وانطلقنا نحو المطار.... كان يوماً من صباحه مثقلاً بالعقبات، فما إن تنتهي عقبةٌ حتى تتبعها أخرى إلى أن استقرّ بنا القرار على كرسي الطائرة.
لم أكن وحيدة في مشاعر اشتياقي للأهل والبلد ولا للعقبات التي لم تفتأ تحلّ بي، بل كان يشاركني في كل ذلك زوجي الذي لم يهدأ حتى جلس بجانبي في المقعد وانتظر مثلي ساعة الانطلاق.
إنها الحياة... ربما لم نعرف منها إلا صورة واحدة! أو ربما لم ننتبه يوماً إلى قصرها!! بل ربما لم نتيقظ إلى أننا راحلون عنها...
لطالما غرّتنا بطول الأمل وبأن السنة تأتي بعد السنة وأننا نتقلب في ساعاتها وبين أزمنتها ومن مكان إلى مكان، وكأننا نعيش الأبد ...
كنت أمنّي النفس بأمنيات بعيدة وقريبة، وأنظر إلى الماضي القريب والبعيد، وأعيدُ الذكريات بينما كانت الطائرة تتحرك في مدرج المطار معلنةً رحلة العودة إلى الديار، وبينما كان مشغل التعليمات للسلامة يتحدث قلت في نفسي: "من سيفعل ما يقال إن حصل في الطائرة مكروه؟!".
وما هي إلا دقائق حتى أصبحنا بين السماء والأرض، كان الليل يبني خِيَمَه في الفضاء فلا يُرى من الأرض على البعد إلا بصيصُ المصابيح وكأنها نجوم الأرض...
على بُعد آلاف الأمتار من الأرض كنّا وكأننا نمشي على الأرض هوناً، يتنقل المسافرون، ويتناولون الطعام ويجلسون ويتحدثون، ويقرؤون، ويضحكون ويتمازحون.
قطعنا نصف المسافة تقريباً وما زلنا بالأجواء نفسها، فهي ليست المرة الأولى التي تطير بها طائرة، وربما ليست المرة الأولى التي يسافر بها مَن على متنها، فالأمر بالنسبة لهم كان اعتياداً أن تتأرجح الطائرة في المطبات الهوائية لتعود إلى استقرارها بعد دقائق وتستمر الرحلة بأمان.
ثم بعد أن شارفنا على الهبوط والشوق يملؤنا ويملأ من هم في انتظارنا حدث ما لم يكن بالحسبان، فإن الطائرة لم تستطع أن تحطَّ على أرض المطار فضلاً عن قدرتها على الهبوط بسلام..
تساءلت في نفسي ما الذي يحدث؟! ماذا أصاب الطائرة؟! هل من خلل ؟! هل من عطل أصابها؟!
نظرت من النافذة فإذا بالجناح الذي كان منذ قليل متماسكاً قد استحال من الفولاذ والصلب إلى ورق مقوّى يلعب به الهواء .. والمقاعد تهتز يمينا ويساراً، والركّاب في موقف من الفزع هائل، وكأن الموت خرج من بيننا من غير إنذار وأخذ ينظر في وجه كلّ منّا، فحصلت الجلبة وكان الفزع؟!
في هذا الجوّ المشحون تناهى إلى مسمعي قول: الطائرة لا تستطيع الهبوط! العاصفة في الخارج تعبث بنا!!
ساعتان من الصراع بين الحياة والموت ونحن في الأجواء ننتظر أن تهدأ العاصفة وتستقر الطائرة.
كانت القلوب تظهر على ما أُشربت به وعلى ما كانت تتغذى عليه.. فمن كان بالله مؤمناً التجأ إليه ضراعة، ومن كان بالمسيح مشركاً التجأ إلى شركه ... ومن كان بعلٍّي متبتلًا ناداه ونادى حسيناً...
فالحمد لله الذي جعل في قلب المؤمن حبّاً له، وجعل البصيرة ترى القرب منه حلاوة، وتطمئن إليه ضراعة، وتهفو للقائه استسلاماً.
في تلك اللحظات كنت أتخيل أيّ ميتة ستكون هي: حطام يدخل القلب فيخترقه، أم ارتطام أم غرق ...
رأيت وكأنني أسلمت لله روحي، فأغمضت عينيّ واستودعت الله أبنائي وأهلي، وسألت الله أن يقبلني وأن يُلهم أهلي الصبر والسلوان على فراقي.. رأيت جثماني مسجى والقبر ينتظرني، والناس تشيعني وإلى الآخرة أُنقل..
كانت تلك اللحظات التي فيها رحلت، رحلت عن الدنيا وقلت "من كان ينتظر يوماً غيابي فهائنذا أغيب عنه بلا عودة، ومن كان ينتظر عودتي فليسامحني لأنني لن أعود..".
لقد كنت أقول فيما مضى: "أنفاسي في الأرض عيش، وحياة روحي هناك..."، في تلك اللحظة أردت لروحي أن تكون هناك باستسلام لأمر الله.
ثم بلطفً من الله تعالى تغير كل شيء، انجلت تلك الغيمة الفاتكة بالقلوب فأخذت الطائرة بالهبوط.. ولكنها في هذه المرة كادت تهوي بنا إلى الأرض فتسحقنا، أو تغرقنا في ماء البحر، ثم أراد لنا المولى أن نبتعد عن خطر السقوط والموت فأعادنا من حيث أتينا!.
هدأت النفوس من الخوف، وتبددت العاصفة في الخارج، لكن عاصفة أخرى لم تهدأ بعد بل في تزايد، إنها عاصفة القلب الذي انتفض من رقاده على حقيقة لا مرية فيها: أن حياته ستنتهي يوماً ما..
لقد كانت الدنيا في عيني جسر عبور إلى الآخرة... واليوم ازددت يقيناً بأن المسافة من الوصول إلى الضفة الأخرى يساوي المسافة بين سواد العين وبياضها..
المصدر : موقع إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة