رمضان.. بقلوبٍ خافقة – كلمة جمعية الاتحاد الإسلامي احتفاءً برمضان
ضيفٌ كريمٌ يَقدُم على الناس بعد أن أجدبتْ نفوسُهم على مرِّ أَحَد عشرَ شهراً، واعتراها القحلُ وانقطع عنها القَطرُ، فيُلقي عليها خلعةَ أملٍ فتعشبُ بها وتنبثق أزاهيرُها، ويجري بها النسيم عبَقاً في الأنفاس، يحمل معه بشرى الرحمة والمغفرة والعتقِ من النار.
إنّه رمضان ، يرقبُه العالَم الإسلامي- وقد أُغلقتْ مساجده، وأُوصِدت مدارسه، وتعطلت أعماله ومعايشُه- بتَوقِ العاشقين، ويتمنى لو يَفْرشُ له الطريقَ بقلوبه الخافقة.
بأملٍ عامرٍ وترحاب غامرٍ تحتفي جمعية الاتحاد الإسلامي بضيف عزيز، يترقَّبُه العالم ترقُبَ المريض للطبيب، والجُرح للبَلْسم، فتهنّئ المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها بقدومه، وتُهيب بهم أن يهتبلوا فرصةَ وجوده بينهم ثلاثين يوماً فيترجموا حبّهم له بمواقف عملية تتجلى في الأمور الآتية:
- 1- أن يكون هذا الشهر فرصةً لتدريب الإرادة على التخلُّص من إصر الغرائز الدنيوية التي ملأت على الناس حياتهم، بإحياء التقوى في قلوبهم التي جعلها الله جلّ وعلا مقصدَ الصوم: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُون } . فيكون الصيامُ عن مطالب الجسد طيلة النهار نوعاً من أنواع المجاهدة.
- 2- ألّا نكون في هذا الشهر الكريم مجردَ أناسٍ جاعوا فأكلوا وعطشوا فشربوا، بل لابد من صوم آخر، نغلق به الباب أمام الضغائن والأحقاد فنُصفِّي نفوسَنا ونمتّن وحدتَنا ونحصّن أخوّتنا الإسلامية، إنّه صوم القلب .
- 3- إذا كان المكان الأكثر أمناً بعد أن أُغلقت المساجد هو البيت أو المستشفى لمَن هم فيها -شفاهم الله- فإن الزمان الأكثر أمناً إنما هو رمضان .
- 4- إنّ من قواعد النّفْس الإنسانية أنّ إشعاعات رحمتها تنشأ من ألمِها ، فالغنيُّ المُترع لا يشعر بالفقير الجائع حتى يجوع، وإذا شعر بألم الجوع ترعرعتْ فيه الرحمةُ التي تدفعه لأن يتصدّق لا بسؤال الفقير، بل بأمر ربّه القائل في محكم البيان : {وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِين} .
- 5- إنْ كانت أعذارُ بعض الناس في مواسم رمضان السابقة عن تقصيرهم أنهم يلتهون عنه بسبب أعمالهم ومشاغلهم التي بها معايشهم، فها هي نعمة الفراغ التي وردت في الصحيح: “نعمتان مغبونٌ فيهما كثيرٌ من الناس: الصحة والفراغ ” تغمرهم، وما عليهم إلا أنّ يعبّوا من رمضان ملءَ أرواحهم .
- 6- ثم إنْ حِيل بين الصائمين وبين أداء التراويح في المساجد، وحُرموا من جلالة المكان وجماله؛ فإن لهم من الأمر متسّعاً في بيوتهم، يركعون فتركع معهم جماعةُ بيتهم، فيتحول كل بيت من بيوت المسلمين إلى جامع .
- 7- إنّ من آداب الاستقبال أن يفرغ الضيف لمضيفه، فلا تُتخذ الدراما- سيّئة الصيت- وسيلة التهاء وتضييع للوقت الثمين فتفوِّت الفرصة العظيمة.
- 8- إنّ السجن إنما هو سجن القلب ، فكم من سائح يتجوّل بين البلدان يُكابِدُ في قلبه ألم الحرمان ! وكم من قابعٍ في بيته، مطلِقٍ لروحه العِنان، سائحٍ بين جَنَبَات نفسه وخَلَجات فكره وفضاءات روحه! وما أروع تلك الكلمة التي نُقلت عن شيخ الإسلام ابن تيمية الإمام رحمه الله : “ما يصنع أعدائي بي؟ أنا جنَّتِي وبستاني في صدري، إن رحتُ فهي معي لا تفارِقُني، إنّ حَبْسي خَلوة، وقتلي شهادة، ونفْيِي سياحة”.
- 9- إنّ توبة الأفراد مطلوبة لكنها غير كافية، فلابد من توبة أصحاب المسؤوليات في المجتمع، ونعني بذلك أولئك الذين تولَّوا أمورنا من الحكّام والمسؤولين، وتوبتهم تكون بكفّهم عن الظلم وإقامتهم للعدل واهتمامهم بالإنسان وحفظهم للكرامة وخضوعهم لمَلِك الملوك – سبحانه وتعالى_ الذي نادى في محكم بيانه: {وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ} . وإن الفرصة إن سنحت فقد لا تتكرر مرّة أخرى.
- 10- فتوبةُ الزعماء -إذن- لا تعني أن يندموا فحسب، بل لابد من أقوال وأفعال، يناصرون الضعيف الذي تركوه بين أيادي الظالمين والمستكبرين يُذيقونه أشدّ أنواع العذاب، مِنِ قَتْل أو سَجن وقصف وتهجير..
- 11- كما لا تعني توبتُهم أن يندموا فحسب، بل عليهم أن يهتمّوا بقضايا الأمّة، من مثل أن ينظروا في المساحة الفلسطينية التي تضيق شيئاً فشيئاً، فيعزموا بين يدي ضيفهم العظيم أن يستردّوا الكرامة التي هُدِرَتْ ويتبوّؤوا الشّرف الذي عبّر عنه الشاعر:
فإمــا حيــاةٌ تَسُــرُّ الصــديق…… وإمــا ممــاتٌ يُغيــظ العــِدى
ونفسُ الشـــريف لهــا غايتــان……. وُرودُ المنايـــا ونيـــلُ المُنــى
أخيراً، إنّ هذه الخلعة اللطيفة التي تُلقى على الناس إنما هي سرّ النفس وسرورها ، يحتفي به أقوام فتبدو آثارها على وجوههم، ويهملها أو يتبرّم منها آخرون فيصدق عليهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” رَغِمَ أنفُ امرئٍ دخل عليه رمضان ثم انسلخَ ولم يغفرَ له” (حديث صحيح في سنن التّرمذي).
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
أثر تغيير الأسماء والمفاهيم.. في فساد الدنيا والدين!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!