عن التدين والمظهر والجوهر .. بمناسبة رمضان
كتب بواسطة ياسر الزعاترة
التاريخ:
فى : المقالات العامة
1128 مشاهدة
نتجاوز زمن «كورونا»، وإن بقينا فيه تبعاً لما يستدعيه من محبة وعطاء وتكافل، ونتوقف مع هذه المسألة الحساسة التي تستحق وقفات دائمة، لا سيما أننا في شهر رمضان الذي يأتي مختلفاً هذه المرة.
يصيبك بالحزن ذلك الذي يطبّق كل مظاهر التديّن المعروفة، لكنه لا يتورّع عن الكذب بلا توقف، وأكل حقوق الناس، أو سرقة وقت العمل في القطاع الخاص والعام، أو حتى تلقي الرشاوى أو دفعها، أو الكذب في العهود والمواعيد، أو تجاوز حق الناس في الطريق.. إلى غير ذلك.
لو جئنا نعدد الأمثلة، فسنضيف صفحات وصفحات، تعكس المسافة الفاصلة بين التديّن، وبين ترجمته واقعاً في السلوك اليومي، مع أن الأخلاق هي جوهر الدين.
نعم.. في سياقات كثيرة مشابهة يمكنك العثور على كثيرين يحرصون على صلوات الجماعة، وعلى العمرة السنوية في رمضان أو سواه، وقد يقاتلون من أجل الحصول على تأشيرة حج بأي طريقة، لكنهم في حركة حياتهم وتعاملاتهم لا يعبّرون عن روح الدين وجوهره الحقيقي من حيث هو اهتمام بالناس الآخرين وشؤونهم من عدل ومساواة وحقوق أخرى، وصولاً إلى الاهتمام بالأمة وقضاياها.
يعلم هذا الذي يقاتل من أجل تأشيرة حج كل عام أنه يسرق بذلك حق حاج آخر؛ إن لم يكن مباشرة من خلال هذه التأشيرة التي ينبغي أن تذهب إلى سواه، فبطريقة غير مباشرة حين يأخذ في المناسك مكان حاج آخر، أو يزيد في الزحام الذي يصعّب المناسك على من تبقّى من الحجاج.
من المؤكد أن مصدر هذا التدين الأقرب إلى الطقوس منه إلى الروح التي تتبدى في سلوك الإنسان، إنما يعود إلى شكل من أشكال الفقه أو الفكر الذي يتعامل مع الحسنات والسيئات بمنطق الحساب، لا بمنطق الدين الذي يعيد صياغة حياة الإنسان بروحية إسعاد المجتمع الذي يكفل بعضه بعضاً، ويقيل بعضه عثرة بعض، ويتصدى للظلم والتمييز.
إذا كانت المجاهرة برفض الظلم مرفوضة، بحسب هذا الفكر، فضلاً عن التصدي له، استناداً إلى حديث أو فهم له يخالف عشرات الآيات والأحاديث التي تطالب بالتصدي للظلم ودفعه، كما يخالف روح الإسلام الذي كان ثورة على الظلم والعبودية؛ فإن من الطبيعي أن يميل الناس إلى تحويل الدين إلى مسألة فردية لا صلة لها بالآخرين، ومن ثم التعامل مع الله -عز وجل- بروحية الأرقام، أو بروحية المظاهر، تماماً مثل ذلك الذي يريد أخذ أجر الصف الأول في المسجد عبر تخطّي رقاب من سبقوه!!
لقد تسامح الله -عز وجل- مع التقصير في جنبه سبحانه (خلا الشرك)، بينما لم يفعل ذلك مع المسِّ بحقوق الناس والمجتمع، بدليل الشهيد الذي يُغفر له كل شيء إلا الدّيْن؛ لأنه حق من حقوق العباد، وبدليل أن جميع الحدود ذات صلة بالجرائم التي تمسّ حرمة المجتمع وأمنه وتماسكه (السرقة، الزنا، القذف، القتل، شهادة الزور)، الأمر الذي ينطبق على أكثر الكبائر أيضاً.
لقد حوّل هذا الفقه الظاهري، بل القاصر في بعض تجلياته، الدين إلى طقوس خارجية، تتعلق بالمظهر، بما في ذلك الصلاة التي هي صلة بين العبد وربه، حيث يحوّلها إلى مجرد أشكال تفتقد إلى الروح (كم من الكتب تتحدث عن الأشكال والحركات، بينما تتجاهل مسألة الخشوع، كما ذهب المفكر المعروف روجيه جارودي)؟!
أين البحث عن التكافل والعدالة ومواجهة الظلم في وعي كثير من المتدينين؟ وأين حقوق الناس الآخرين، لا سيما الفقراء، وأنت تعثر على أثرياء يحجّون ويعتمرون سنوياً (خمس نجوم)، بينما يبحثون عن أي فتوى شاذة يتهرّبون من خلالها من دفع زكاة أموالهم، لا سيما في قطاع الأراضي والأسهم وسواها؟ فضلاً عن تتبعهم الآراء الشاذة في سياق تبرير جمع الأموال.
المتديّن الحقيقي ليس هو الذي يتّخذ الأشكال الخارجية ويُكثر من العبادات فقط، بل هو الذي يتمثّل أخلاق الإسلام في كل سلوكه. هو الذي يسعى في حاجات الناس وصلاح المجتمع، ويدافع عن الحق والعدل، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وينخرط في كل نشاط ينهض بالإسلام والمسلمين. ومن لم تدفعه عباداته إلى مزيد من الإيجابية في حياة مجتمعه وأمته، فإن تديّنه شكلي لا روح فيه.
المصدر : العرب القطرية
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة