متخصّصة في مناهج تعليم اللغة العربية، كاتبة في مجال التربية | باريس
أين الرشد في صومنا اليوم؟!
كتب بواسطة نجيبة بلحاج ونيسي
التاريخ:
فى : المقالات العامة
2134 مشاهدة
استرعى انتباهي حديث رسول اللّه أورده ابن ماجة في سننه، عند رؤيته عليه الصّلاة والسّلام هلال رمضان: "هلال رشد، هلال رشد، هلال رشد".. وألفتت نظري كلمة "رشد" في الحديث وربطها بهلال رمضان..
ومرّ بخاطري ما تمتلئ به مواقعنا، صفحاتنا، حساباتنا ورسائلنا الرّقميّة، من تبادل للأحاديث الشّريفة والأدعية بمناسبة حلول رمضان و في غيره من المناسبات.. ترى إلى أيّ مدى، هذه الأحاديث المتبادلة والتّوصيات والمراسلات الّتي تعجّ بها الشّبكة، لها حظّ في عملنا اليومي، في معاملاتنا،؟!.. هل نعمل بموجبها وبرشد أثناء ممارستنا لعباداتنا كلّها؟!..
ما أحوجنا حقيقة إلى الرّشد!.. وعين الرّشد أن ندرك إدراكا عميقا كنه كلّ حدث، كلّ أمر، كلّ قول ولا نقف عند ظواهر الأشياء.. فيكون الظّاهر إفرازا متناغما مع الباطن.
أين الرّشد في صومنا اليوم؟ وكثير منّا الصّوم عنده ظاهر من الامتناع عن الأكل والشّرب نهارا، ولا علاقة له بكيفيّة إدارة ما عدا ذلك من حياته. ويعيش طبق ما تمليه عليه تقاليد مجتمعه، تقاليد يغشاها الإسراف في الأكل و الشّرب ليلا، والسهر للّهو واللّغو، سهر قد يصحبه مجون وإغراق في الفواحش؟؟..
الصّوم الرّشيد هو الّذي أقرّه اللّه لنا وهو الّذي ربّى عليه رسول اللّه صحابته عليهم رضوان اللّه.. هو مدرسة الموادّ فيها عبادات نتقرّب بها إلى اللّه بغية الخضوع له. هو شحن للنّفس حتّى تحسن الاستجابة لتوجيهات خالقها وتقدر على ذلك سائر السّنة. وفي هذا يقول صلّى اللّه عليه وسلّم:" إذا سلم رمضان سلمت السّنة". (البيهقي)
الصّوم جوع للبطن وصحّة للجسم وقوّة للقلب، فإن لم يكن إسكات الهوى خدمة للهدى فكيف نفوز بمفاتيح الجنّة؟!.. هكذا عاشه الصّحابة عليهم رضوان اللّه.. كانوا يسمّون هذا الشّهر شهر الإقبال على اللّه..
قد كان الإمام مالك يترك قراءة الحديث ومجالسة أهل العلم ليقبل على تلاوة القرآن الكريم في هذا الشّهر.. وقلّما استطاع أحد أن يكلّم الإمام أبو حنيفة في العشر الأواخر لتفرّغه لقراءة الكتاب.
عُرِف السّلف الصّالح عموما بالتّفرّغ لذكر اللّه وتلاوة كتابه والتّوجّه إليه بالدّعاء في شهر رمضان خاصّة.. وعاشوا فيه معنى خاصّا للإطعام والبذل والإنفاق تعهّدا للفقراء والمساكين.. لم يعرفوا الإسراف في ملء الموائد بما تشتهي الأنفس ليلا تعويضا عمّا فاتها في النّهار.. حرصوا على أسباب المغفرة في هذا الشّهر المبارك الّذي اختاره اللّه لبدء نزول النّور إلى أرضه، وخصّه سبحانه بليلة القدر الّتي ثابر السّعاة إلى اللّه على تتبّعها في العشر الأواخر بتذوّق نعمة الأنس بالذّكر وممارسة رياضة روحيّة تصلهم بالخالق، وتربط أفراد مجتمعهم بتراحم وأخوّة.. عوّدوا أنفسهم على ما يقوّيها ويرفع أرواحهم في هذا الشّهر المميّز، فكان لهم كفّارة للذّنوب ومنفذا إلى العتق من النّار.. وحقّ لهم أن يكونوا من الّذين قال فيهم رسول اللّه:" نوم الصّائم عبادة، وصمته تسبيح، وعمله مضاعف، وذنبه مغفور، ودعاؤه مستجاب." (البيهقي)..
وحقّ لهم التّمتّع بالفرحتين المذكورتين في حديث رسول اللّه: "للصّائم فرحتان يفرحهما، إذا أفطر فرح بفطره، و إذا لقي ربّه فرح بصومه." (مسلم) الفرح بالفطر ممكن في كلّ الحالات، فالنّفوس فطرت على الميل إلى ما تحبّ من مطعم ومشرب ومنكح، فإن امتنعت عن هذا الميل لفترة ستفرح إن أقبلت عليه بعد حرمان، ساعة الإفطار. أمّا الفرح عند لقاء الرّبّ فلن يكون إلّا إذا امتلأ القلب إخلاصاً للّه وقت الصّوم و يكون فطر الصّائم على الحلال مع الحيطة من الحرام و تجنّب الفواحش. وإن لم يكن كذلك فلن يكون له من صومه إلّا الجوع والعطش..
ولن ينال من الخصائص الّتي أكرم اللّه بها الصّائمين كأن ينظر سبحانه إلى عبده الصّائم أوّل رمضان نظرة تحفظه من العذاب. ولن يكون خلوف فمه أطيب عند اللّه من المسك. و لن يستغفر له الملائكة في كلّ يوم وليلة، ولن تتزيّن له الجنّة و تستعدّ لاستقباله، ولن يغفر اللّه له آخر ليلة من رمضان.. أنّى يكون له ذلك ولم يعش الصّوم الّذي أقرّه اللّه.
خلق اللّه المخلوقات وجعل مبدأ التّوازن أساساً للحياة كلّها، وجعله أساساً لعقيدة المسلمين خاصّة، قرّر أن تكون عناصر الحياة متداخلة بتوازن دقيق، فإن اختلّ هذا التّوازن أو أُهمِل عنصر من عناصره، فسدت.. كذلك عقيدة الصّوم وكلّ العبادات إن لم يؤخذ بها جوهرا ومعنى، باطناً وظاهراً، كما أمر اللّه تفقد كنهها وتمّحي روحها و تفسد.
هل صوم المسلمين اليوم كفيل بأن يجعل أحوال الصّائم عبادة؟!..
لا بدّ لنا من الاستيقاظ من غفوتنا لنعيش عباداتنا كما أرادها اللّه لنا. وأسوتنا الرّشد الّذي ارتقى إليه الصّحابة عند ممارستهم للصّوم، وتقصّاه الصّالحون من بعدهم، ولنجعل من هذا الشّهر مجالاً لترويض أنفسنا على إحياء ما افتقدناه من فهم، وكفانا انحناء لعادات الآخرين.. يقول اللّه تعالى: "واستقم كما أمرت ولا تتّبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل اللّه من كتاب".(15، الشّورى)
ليكن ظهور هلال رمضان مصدر رشد، جوهراً و ظهراً، في كلّ أعمالنا. لتكن مدرسة الصّوم حافزاً للثّبات على مبدإ التّوازن الّذي يقوم الوجود كلّه على أساسه. التّوازن بين مطالب الجسد وتغذية الرّوح، بين العقل والشّهوة. ليكن العمل في الدّنيا محقّقا لمعنى العبادة الشّامل. فننعم بآخرة دائمة يحقّ لنا أن ندخلها من الباب المعدّ للرّاشدين في صومهم، باب الرّيّان..
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة