بين الفرنسيين والأمريكان: أين تموضع حكومة لبنان؟

قبل ذكرى الأربعين لشهداء بيروت ومينائها الحزين، صعدت إلى سماء بيروت مرة أخرى غيوم سوداء حالكة، بفعل حريق جديد نكأ الجراح النائمة، مذكّراً بأننا حتى الساعة ننشد حقيقة انفجار بيروت الأول أو ما بات يعرف (ببيروتشيما)، ذلك الانفجار الذي حمل الرئيسَ الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى لبنان مرتين خلال شهر واحد، وأطاح بالحكومة الديابية مع بقائها حتى الساعة حكومة تصريف أعمال بانتظار الرئيس المكلف الجديد القادم ورائحة العطر الفرنسي تفوح منه ومن تكليفه، وحتى من شكل المفاوضات التي يخوضها مع أهل الحكم تحت الحراب الفرنسية، علما، بأنه يُحسب له الكثير من الكتمان في المشاورات التي شارفت على نهايتها للوصول إلى حلول، حيث المهلة الماكرونية قاب قوسين أو أدنى من النهاية، وذلك حينما رسم الرئيس الفرنسي خارطة طريق لبنان وعقده الاجتماعي والسياسي، محدداً مهلة خمسة عشر يوما للولادة الحكومية الجديدة بوجوه تحمل الإصلاح بالأعمال لا بالشعارات، كحال معظم من التقاهم في قصر الصنوبر كل على حدة.

 

إن البوصلة الفرنسية العاملة في لبنان تدرك جيداً حجم المصاعب، ولكن تحمل معها بعضاً من الترياق الشافي للبنان الواقع في عجز سياسي اقتصادي مالي نقدي، والأكبر فقدان ثقة الناس والمستثمرين منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، مع ما حمله من سياسات مالية قاتلة هوت بالتصنيف الائتماني للبنان، وتاليا ضربة في صميم العلاقة مع حملة الأسهم والدائنين الدوليين.

 

 

 

 

إن الفرنسيين ينطلقون من فكرة التدرج في المطالبات للوصول مع الأمريكان إلى مبتغاهم في لحظة إقليمية معقدة إلى أبعد الحدود. لقد دعا الرئيس ماكرون إلى تحييد حزب الله عن المواجهة المباشرة مع الأوروبيين حتى اللحظة، وأقله على الصعيد الفرنسي، لترجمة حلول تصاغ مع الحزب الذي يعد اللاعب المفصلي والأساسي في الحياة السياسية اللبنانية، وكبادرة متقدمة جاءت اللقاءات والتمنيات على الحزب وقادته أو عبر الراعي الإقليمي، خاصة إذا ما علمنا أن السفير الفرنسي الحالي في لبنان أمضى أعواماً وأعواماً في طهران، وكأني به صلة الوصل لبداية مقاربة بين الأمريكان والإيرانيين في لبنان برعاية فرنسية.

 

وإلى فرنسا، حيث جزء من التأليف الحكومي الحاضر بقوة من خلال زيارة الموفد الرئاسي اللواء عباس إبراهيم، حيث تشير التقارير إلى إمكانية الحلحلة؛ إن لجهة العدد أو الحقائب أو الأسماء مع بقاء بعض الحقائب، لا سيما المالية التي يصر الثنائي الشيعي على الاحتفاظ بها، والتي قد تكون عقدة العقد الظاهرية ردّاً على العقوبات الأمريكية التي طالت وزيرين من حلفاء حزب الله، هما معالي الوزير علي حسن خليل ومعالي الوزير يوسف فنيانوس، في ضربة أصابت عصافير كثيرة:

 

 

 

 

أولا: رسالة واضحة أمريكياً للفرنسيين بأن الأمريكيين ما زالوا على تشددهم في الملف اللبناني.

 

ثانيا: رسالة إلى حركة أمل بالمباشر عبر الوزير خليل، وأبلغ الكلام ما قاله بيان حركة أمل بأن الرسالة وصلت.

 

ثالثا: رسالة إلى الوزير فرنجية المرشح الرئاسي الدائم، في أن ورقة الحصول على الرئاسة ستتطلب تنازلات في العلاقة مع محور المقاومة الاستراتيجي للحصول على الدعم الأمريكي مستقبلا.

 

رابعا: رسالة إلى الوزير السابق جبران باسيل بأنه بات قاب قوسين أو أدنى من بلوغ اسمه دائرة العقوبات، وليس أدل على الفتور الأمريكي مع باسيل أنه لم يكن على جدول أعمال لقاءات السفير ديفيد هيل في زيارته الأخيرة، علما أن باسيل التقى ماكرون لما يقارب 45 دقيقة في قصر الصنوبر ثنائيا.

 

من المؤكد أن الأمريكان أودعوا الفرنسيين مجموعة من الشروط للمضي قدما بالحلول للبنان الدولة، ربما أولها إنهاء ملف الترسيم البري والبحري مع العدو الإسرائيلي، وثانيها عدم مشاركة حزب الله في الحكومة الذي حله باستبعاد الأحزاب كافة عن التشكيلة الحكومية القادمة، مع التأكيد أن تكون حكومة مصغرة ببرنامج واضح للإصلاحات على الصعد المالية والاقتصادية والنقدية كافة مع صندوق النقد؛ الذي مفتاحه الأساسي الولايات المتحدة والمملكة العربية السعودية المنكفئة عن الداخل اللبناني، والمعوّلة على التشدد الأمريكي أن يأتي ثماره عبر الفرنسيين، وثالثها قد يكون المحك بين الداخل اللبناني والفرنسيين (الرعاة الحاليين) في مقاربة دور حزب الله في الداخل والإقليم.

 

 

 

 

وهنا بيت القصيد في القادم من الأيام، لا سيما الزيارة المرتقبة لسيد الإليزيه بعد ما يقارب المئة يوم، في حال بزوغ فجر الحكومة القادمة مع الرئيس أديب بلا تعقيدات، وهذا ما ستظهره الأيام القليلة والمتبقية لمهلة 15 يوما التي وضعها ماكرون نفسه.

 

لا شك في أن هناك تقاطعات مشتركة بين الفرنسيين والأمريكان في لبنان والمنطقة عموماً، والأكثر وضوحاً السعي الفرنسي الدؤوب في شرق المتوسط وثرواته، من اليونان إلى لبنان، حيث المواجهة الفرنسية- التركية الواضحة المعالم والآخذة في التصاعد والتصعيد.

 

ولا نقاش في أن الفرنسيين مع حبهم الفرانكفوني للبنان، يعنيهم أولا تموضع لبنان الدولة في شرق المتوسط الملتهب في ظل سياسة الأحلاف ضمن الإقليم، وكذلك الأمريكان يعنيهم تموضع لبنان ودور حزب الله فيه، حيث المعادلة المشتركة لدى الطرفين الأمريكي والفرنسي، عنوانها استقرار لبنان ولكن ليس بأي ثمن، ولا شيكات على بياض لأحد في لبنان حتى نضوج ثمرة تموضع لبنان عبر حكومته القادمة وتموضعها في المقلب المناسب في زمن المعادلات الصعبة، خاصة على أبواب انتخابات الرئاسة في أمريكا تشرين الثاني/ نوفمبر القادم.