باحث أكاديمي | فلسطين
الترامبية العربية.. هوسها وخطرها على العقل
كتب بواسطة ساري عرابي
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1023 مشاهدة
لا يحتاج المرء إلى شيء من التقصّي لاكتشاف الترامبيين العرب، وسقوطهم عن حافّة العقل إلى قعر غير متخيل من الجنون، فقط يكفي حساب على موقع تويتر، مشغول بالمتابعة السياسية والصحفية، أو جولة عابرة على القنوات الإخبارية العربية التي غطّت الانتخابات الأمريكية، للوقوف، دون جهد أو طلب، على الهذيان الذي بات لغة سياسية سائدة في الأوساط العربية، ومن موقع يناقض التفكير السياسي نفسه.
فالترامبيون العرب، في حقل الإعلام، يمثّلون توجّهات دول بعينها، ويعكسون طرائق التفكير لدى صنّاع القرار فيها، وهي دول تملك من الإمكانيات والعلاقات، مما ينبغي أن يجعلها أقلّ توترا في مراقبة الانتخابات الأمريكية، والتعاطي مع نتائجها، ولكن الأمر ظهر وكأنّه اصطفاف يفوق في هوسه ولا معقوليّته مشجعي أندية كرة القدم، فهو مخلوط بقدر كبير من النكاية والشخصنة، والإحساس بالخطر الوجودي، والذي انعكس في نمط من التعلّق الطفولي بشخص ترامب.
لأنّ هذه السياسات قصيرة النظر إستراتيجيّا، وتتسم بالمبالغة، وتتخذ الطابع الشخصي، وتعاني جرّاء ذلك من إخفاقات كبيرة، وتُخْضِع صناعها للهوس والقلق الدائمين، فلا بدّ من وجود حامٍ كبير، التعلّق به أقرب ما يكون إلى الطفولية
الاستغراق في الاصطفاف، حوّل السياسات الآنيّة إلى قضايا وجوديّة محيّرة، كالعداء المفرط لجماعات إسلامية منهكة منقسمة على نفسها، تُصَوَّر وكأنّ "المؤسسة" في الولايات المتحدة، أو ما يسمى "الدولة العميقة"، في قبضتها، أو كتحويل العلاقة مع "إسرائيل" من سياسة ذرائعيّة قد تجد لها تفسيرات واقعيّة إلى حالة من العشق المحموم، والعلاقة مع الفلسطينيين من تناقض مصالح آنيّ إلى خلق عدوّ جديد يتفوق العداء له، في الدعاية ومستوى الخطاب، على عداء "إسرائيل" نفسها له، أو تبني الدعاية اليمينية الأوروبية المعادية للإسلام بالكامل، مع شيء من المخاتلة الساذجة في محاولة تبرير الاصطفاف مع كارهي الإسلام والمسلمين، أو المبالغة في خلق التناقضات مع تركيا بما يتجاوز تضارب المصالح الذي يمكن تعقّله. ولأنّ هذه السياسات قصيرة النظر إستراتيجيّا، وتتسم بالمبالغة، وتتخذ الطابع الشخصي، وتعاني جرّاء ذلك من إخفاقات كبيرة، وتُخْضِع صناعها للهوس والقلق الدائمين، فلا بدّ من وجود حامٍ كبير، التعلّق به أقرب ما يكون إلى الطفولية.
التعلق الطفولي بترامب، يجعل مِن وَصْفِهم بعد خسارة ترامب الانتخابات بـ"أيتام ترامب" وجيها للغاية، وهو وصف شعبيّ، لا تنتقص شعبيته وشيوعه من دقّته وذكائه، وصدمة اليتم هذه، مع ما سبقها من ثقة مطلقة بترامب والتيار الصهيوني الداعم له، أدخل بعضهم في حالة من الإنكار، مثيرة للازدراء أكثر مما هي مثيرة للشفقة. ولأنّ طبيعة الموقف أصلا، وما حفّه من خطاب، لا يمكن حمله على دعائم عقلانيّة كافية، فلا يمكن أن نجد طرحا معقولا في مظاهر دعمه عربيّا، ثم ما تلا ذلك من مظاهر إنكار خسارته، ومظاهر رثاء الديمقراطية الأمريكية "التي يسيطر عليها الإخوان المسلمون"، وما يضاف إلى ذلك الرثاء من هجاء للعرب والمسلمين الفائزين في الانتخابات النصفية للكونغرس..
خسارة ترامب مفيدة؛ لهذه الأسباب وغيرها، وبالرغم من أنّ بعض ساسة دول الثورة المضادّة، يملكون حيوية تتيح لهم التأقلم الكافي مع التحولات في النظام الدولي، والتكيف مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فإنّ أيّ تراجع في انفلات اللاعقلانية مفيد لهذه المنطقة
سياسات أنظمة الثورة المضادة، المتحالفة عضويّا مع "إسرائيل" وقوى اليمين الشعبوية في العالم، بما تنتجه، بالضرورة، من دعاية مسمومة، لا تشوّه الوعي فحسب، ولكن تصيب العقل في مقتل، بما يجعل التشافي العام من أمراض العقل المبثوثة في المجال العربي يأخذ وقتا طويلا. ولأننا في زمن الفضاء المفتوح، والخطابات المعولمة، فإنّ تشويه الوعي وتسميم العقل، يستهدف المجالات العربية والإسلامية كلّها، تماما كما أن السياسات في أصلها، ومن الموقع الوظيفي في خدمة القوى الدولية الأكثر يمينية، تضرّ بمصالح العرب والمسلمين حيثما كانوا. ويكفي دلالة ذلك الاستعجال في إعلان التحالف مع "إسرائيل" خدمة انتخابية لترامب، في مغامرة، وبمنطق المصلحة المحض وبمعزل عن الاعتبارات الأخلاقية والمبدئية، أفقدت أصحابها ورقة للمناورة بها لاحقا مع الإدارة الأمريكية الجديدة، مما يبين المدى الذي يمكن أن تذهب به هذه السياسات في تحطيم مصالح العرب والمسلمين، لأجل مصالح آنية رخيصة وضيقة قصيرة ومتوهمة!
خسارة ترامب مفيدة؛ لهذه الأسباب وغيرها، وبالرغم من أنّ بعض ساسة دول الثورة المضادّة، يملكون حيوية تتيح لهم التأقلم الكافي مع التحولات في النظام الدولي، والتكيف مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فإنّ أيّ تراجع في انفلات اللاعقلانية مفيد لهذه المنطقة، في هذا الوقت الحساس، دون أن يعني ذلك، لدى العقلاء، أيّ توقع لتحوّلات جوهرية في إدارة بايدن الجديدة، فقط الذين يحترفون إعادة تدوير الأوهام هم الذين يجدون في بايدن فرصة مضاعفة لخداع أنفسهم وشعوبهم.
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن
الأَكَلَةُ... والقَصْعة