وللبحر أسرارا
مالتِ الشَّمسُ للغروب، فأرختْ على الأفقِ عباءتَها النُّورانيَّة، فيما اتَّشحت السَّماءُ باللونِ "الليلكي"، راسمة لوحةً ساحرةً لكلِّ متأمِّل، فكأنها تُغري العابرينَ بصورةٍ تُلتقطُ إلى جوارها، وهي التي اعتادتِ الابتسامَ عند الشُّروقِ فتركتْ أثرًا جميلاً، وهي التي رسمتْ للحزنِ جلالاً وهيبةً عند الغروب، فكان أثرُها عندَ الرَّحيلِ أبلغَ في القلوبِ منهُ عندَ استقبالِ النَّهار.
وانسكبَ الشُّعاعُ الدَّافئ بيْن أمواجِ البحر، فكان الجمالُ في أبهى صوره.
النُّورُ والماءُ، وأجنحةُ النَّوارسِ البيضاء، وقوارب الصَّيَّادين، كلُّها عناصرُ تكاملتْ؛ لتنعكسَ ظلالها على القلوبِ المُتعَبة، وتُغري السَّائحين بمكوثٍ أطول قُربَ البحر ورماله.
أخذتُ أسيرُ على الرِّمالِ الدَّافئة التي أُشبعتْ حنانًا من أمِّها الشَّمس، فراحتْ تُقلِّدها في سخاء العطايا، وكرم الحضور، أراقبُ حركةَ الصَّيَّادين وهم يرفعون الشِّباك، ينادي بعضُهم بعضًا للتعاون، وتقاسمِ الغنيمة.
كانتِ الأملَ ينبعثُ من حناجرهم، وهي تحكي حكاية صيدٍ وفير، تتكاتفُ سواعدُهم السَّمراء؛ لتجذبَ الحِبالَ المُتفرِّقة على الشّاطئ.
كلٌّ في عينيهِ أملٌ واعدٌ، فكأنَّه يجذبُ حبالَ الأمنياتِ لعلَّها تتحقَّق وإن اختلفت، وإن تباينَ الطُّموحُ في نفسِ كلِّ واحدٍ منهم، يبقى الأملُ قوَّةً توحِّدهم، وتجمعهم كلَّ مساء.
ودَّع الناسُ الطبيعة والجمال، وتجمهروا حولَهم يراقبونَ براعة قائدِ الصَّيَّادين وقوَّته، يصفِّقونَ لمهارته في صُنعِ الشِّباكِ المتينة، ومدّها على اتّساعِ البحرِ وعرضه، يُفتّشونَ في المشهدِ البديعِ عن قوَّة فقدوها، وهمَّة تسرَّبتْ كالماءِ من بيْن أيديهم.
كلٌّ جاءَ ليتعلَّم؛ ليتتلمذَ على يدِ صيَّادٍ حكيم، لم يحملوا صنَّارة، بل حملوا رغبة في التُّعلمِ وطلبِ الفائدة، ولم يقفوا وعلى رؤوسهم الطَّيْر إلا وقد استحضروا معهم نباهةَ عقولهم، فالناظرُ إلى العيونِ لا يخفَى عليهِ بريقُها، ولوجوهِ طُلاَّبِ الحِكمة سماتٌ قد تحلَّى بها كلُّ العابرين، كلُّ الذين جعلوا فكرةَ الصَّيد محطَّتهم.
بدأتِ السَّواعدُ تجذبُ الشِّباكَ الثَّقيلة، المهمَّة أصعبُ من كونها انتشالاً لأسماك في سِجنها.
إنَّها عمليةُ حياةٍ وموت، حياة لعائلاتٍ اعتمدتْ في قُوتها اليوميِّ على كنوزِ البحر، وهيَّأتْ موائدها لتعمرَ بالخيرِ الوفير، وموت لأسماك عنيدة، قد خبرت أسرارَ البحر ونِقاطَ ضعْفِ الصَّيَّادين، وثغرات الشِّباك، فتعلَّمت شقَّ طريق الحُريَّة، والفوز بعَشاءٍ لذيذ.
اقتربتِ الشِّباكُ من الشَّاطئ أكثر، وتعالتْ صيحاتُ الفرح، جذب الصَّيَّادون الحِبال، واستعانوا بغيرهم، وشخصتِ العيونُ واتَّجهت إلى نقطة المنتصف، ثوانٍ مضَتْ، والتَّرقُّبُ قد بلغ حَدَّه، والسَّائحون قد هيَّئوا آلاتِ التصوير؛ ليحظوا بلقطاتٍ نادرة، حوتٌ ضخْم، أُخطبوط أو سمكُ قِرْش، كلُّها كانت احتمالاتٍ راجحة، أو أسماك شهيَّة، بعدَد حبَّاتِ العرق التي تساقطتْ من الجباهِ الكادحة.
في لحظة الصِّفر، وحين برَز الصيدُ دون حُجب، صدرتْ عن الجميع صيحاتُ عَجَب.
ووقف الصَّيَّادونُ وقد انتابتْهم حالةٌ من ذهول.
تقدَّم أشدُّهم بأسًا، وأكثرهم جلدًا وجرأة، وحمل ما ألقتْ به الشِّباكُ، ورماهُ في البحر.
لم يكن في الحقيقة سوى سمكة فِضِّيَّة صغيرة، راحتْ تتخبَّطُ بين يديه، تتحركُ يَمنةً ويَسْرة، تُصارعُ الموت، وترنو إلى الحياة بكلِّ ما أوتيتْ من قوَّة، ويداه الضخمتان تطوِّقانها تختبران جَلَدها وجُرأتها، حتى استجمعتْ شجاعتها، وانزلقتْ من بيْن يديه، وشقَّت طريقها في البحر قريرةَ العين سعيدة.
عاد السَّائحون إلى مراكبهم محمَّلين بالخَيْبة، فقد أخفق البحرُ هذه المرَّة في تصوير درسِ الكِفاح وثمرته، فأغلقوا آلاتِ التَّصوير، وقفلوا راجعين إلى ديارهم، وانكفأ الصَّيَّادون بدورهم إلى بيوتهم، بأجسادٍ مُتعَبة، وبطونٍ خاوية، وقد أيقنوا أنَّه يومٌ كئيب، لا رزقَ فيه ولا فرح!
وبقي قائدُهم جالسًا على صخرةٍ كبيرة، يتأملُ باسمًا غموضَ البحر، ويُنقِّبُ في أسراره.
كان الوحيد الذي فَهِم أن سمكة واحدةً صغيرة بإمكانها هزيمة مجموعةٍ من الصَّيَّادين بضعْفها، وبأنَّ لكلِّ ضعيفٍ في الحياة جانبًا آخرَ قويًّا، يمكنه عن طريقه تجاوز الصِّعاب، والتَّغلُّب على العقبات، وإن كان ذلك في أكثرِ اللحظات حرجًا على الإطلاق.
وعادتِ السَّمكة الصَّغيرة إلى رِفاقها تَرْوي لهم بسعادة غامرة قصَّةَ الحياة والموت، تُخبرهم أنَّ المتشبِّث بشِباكِ الأمل، المتحلِّي بإيمانٍ أكبر، لا بدَّ سيصلُ يومًا إلى غايته ومُناه.
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء التاسع
اكتئاب المراهقين وفنّ التعامل معه
بواعث الأمل.. بين جدران العزل
ذكريات غَزَتْني!
الإنسان كما يعرِّفه القرآن ـ الجزء الثامن