رمضان والتربية على العفة
كتب بواسطة الدكتور عبد المجيد البيانوني
التاريخ:
فى : آراء وقضايا
1849 مشاهدة

يُوسُفُ الصدّيق عليه السلام نموذجاً ..
رمضان شهر تربية النفس على التقوى .. وعلى العفّة خصوصاً : والعفّة من أعظم الصفات النفسيّة ، والمَلكات الخلقيّة ، التي تدلّ على استعداد النفس للمكارم ، وسموّها وطهارتها .. فإذا اقترنت بتقوى الله تعالى فقد تحصّنت بالركن المَتين المَكين ، الذي يزيد العفّة توثيقاً وتمكّناً .. يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله في بيان منزلة العفّة من التقوى : « ... التقوى أن يترك ما يريبه إلى ما لا يريبه ، وقد يحمله على أن يترك ما لا بأس به مخافة ما به بأس ، وهو الصدق في التقوى ، فإذا انضم إليه التجرد للخدمة ، فصار لا يبني ما لا يسكنه ، ولا يجمع ما لا يأكله ، ولا يلتفت إلى دنيا يعلم أنّها تفارقه ، ولا يصرف إلى غير الله تعالى نفَساً من أنفاسه ، فهو الصدق ، وصاحبه جدير بأن يسمى صدّيقاً ، ويدخل في الصدق التقوى ، ويدخل في التقوى الورع ، ويدخل في الورع العفّة ، فإنّها عبارة عن الامتناع عن مقتضى الشهوات خاصة ، فإذن : الخوف يؤثّر في الجوارح بالكفّ والإقدام ، ويتجدّد له بسبب الكفّ اسم العفّة ، وهو كفّ عن مقتضى الشهوة ، وأعلى منه الورع ، فإنّه أعمّ ، لأنّه كفّ عن كلّ محظور ، وأعلى منه التقوى ، فإنّه اسم للكفّ عن المَحظور والشبهة جميعاً ، ووراءه اسم الصدّيق والمُقرّب ، وتجري الرتبة الآخرة ممّا قبلها مجرى الأخصّ من الأعمّ ، فإذا ذكرت الأخص فقد ذكرت الكلّ .. » .. إحياء علوم الدين (4/156) .
وقال الراغب : وأهمّ الفضائل التي اختصّ الإنسان بها ، واستصلح لها ممّا لم يكن للملائكة : الاتّصاف بالعِفَّة ، التي هي مختصّة بالقوّة الشهويّة ، والنجدة المُختصة بالقوّة الغضبية ، والإنصاف في المُعاملات ، وسياسة الإنسان نفسه ، ومجاهدة هواه ، وسياسة ذويه وأبناء جنسه ، فإنّ كلّ ذلك فضائل ليست إلاّ للإنسان المُختصّ بقوّته الشهويّة والغضبيّة .. والصبر ضربان : صبر عن المُشتهى ، وهو العِفَّة ، وصبر على المَكروه ، وهو الشجاعة .
ويدخل في العِفَّة الجود ، إذ الجود ضربان : أن تكون بما في يدك مُتبرّعاً ، وأن تكون عمّا في يد غيرك مُتورّعاً ، والزهد يقاربه ، فيقال اعتباراً بترك عرض الدنيا ، والعِفَّة تقال اعتباراً بحبس النفس عن الشهوات ، ويتلازمان . تفسير الراغب .
والأصحّ أنّ العِفَّة ليست مختصّة بالقوّة الشهويّة فحسب ، بل تشمل القوّة الغضبية أيضاً ؛ فمن العِفَّة الكفّ عن دماء الناس وأموالهم وأعراضهم ، والكفّ عن الدماء حبس للنفس عن الاستجابة للغضب ، والتمادي مع مقتضاه .. وتختلف العِفَّة قوّة وضعفاً بحسب قوّة الإيمان وضعفه ، لأنّها من مقتضيات الإيمان وثمراته ..
وحقيقة العِفَّة لا تجعلها خاصّة بالكفّ عَنِ المَعصِيَةِ ، وَالعِصمَةِ عَنِ التَّعَدِّي فحسب ، بل هي كفّ من جهة ، يتبعه إقدام إيجابيّ من جهة أخرى لفعلِ الخير ، والاستجابةِ لدواعي المُروءة .. لأنّ النفس المُؤمنة إذا ألجمت عن الشرّ انبعثت فيها دواعي الخير ، كالفرس الأصيل إذا تحرّر من قيوده ، لم يحل بينه وبين السبق شيء ..
وحقيقة التقوى تسمو بهمّة صاحبها إلى معالي الأمور ، وهي خوف رادع ، يقطع كلّ رغبة في اقتراف المَحظور ، وفي ذلك يقول الإمام الغزاليّ رحمه الله : « الخوف إن لم يؤثّر في العمل فوجوده كعدمه ، مثل السوط الذي لا يزيد في حركة الدابّة ، وإن أثّر فله درجات بحسب ظهور أثره ، فإن لم يحمل إلاّ على العفّة ، وهي الكفّ عن مقتضى الشهوات فله درجة ، فإذا أثمر الورع فهو أعلى . وأقصى درجاته أن يثمر درجات الصدّيقين ، وهو أن يسلب الظاهر والباطن عمّا سوى الله تعالى ، حتّى لا يبقى لغير الله تعالى فيه متّسع ، فهذا أقصى ما يحمد منه ، وذلك مع بقاء الصحّة والعقل ، فإن جاوز هذا إلى إزالة العقل والصحّة فهو مرض يجب علاجه ... بأسباب الرجاء حتّى يزول ... وكيف لا يكون الخوف فضيلة .؟! وبه تحصل العفّة والورع والتقوى والمُجاهدة ، وهي الأعمال الفاضلة المَحمودة ، التي تقرّب إلى الله زلفى .؟ » . إحياء علوم الدين (4/156) .
والصوم من أهم العبادات لبناء التقوى في النفس ، لمَا أنّه في حقيقته يربّي المُؤمن على قوّة الرقابة لله عزّ وجلّ ، فلا يبالي بنظر الناس وكلامهم ..
ولقد خصّ الله تعالى يوسف عليه السلام بجمال الصورة ، وجمال الباطن .. فجمال الصورة أدّى إلى افتتان النساء به ، وجمال الباطن تجلّى في العِفَّة العظيمة ، التي كان عليها يوسف عليه السلام ، مع وجود دواعي الفتنة الكثيرة لوقوع السوء منه ، ولكنّ الإيمان ونوره ، والإخلاص وقوّته ، لا يشذّ عنهما فضيلة ، ولا تجامعهما رذيلة . فوقف جمال الباطن أمام فتنة الصورة والظاهر ، ممّا يدلّ على أنّ المَلكات والصفات النفسيّة للإنسان هي التي تحكم سلوكه وتوجّهه ..
وبذلك يَتبيّن لك لمَاذا سمّي يوسف عليه السلام يوسفَ الصدّيق ، فقد كان على الذروة العليا من العِفّة والتقوى ، إذ تعرّض لفتنة تزلزل الجبال ، ويسقط دونها أكثر الرجال ، وهي تكشف عن دخائلهم ، وتظهر حقيقة معادنهم ..
وكون يوسف الصدّيق عليه السلام في الذروة العليا من العِفّة والتقوى يتبيّن لنا من جملة أمور ذكرها الإمام ابن القيّم رحمه الله ، نلخّصها عنه في النقاط التالية :
« أحدها : ما ركب الله سبحانه في طبع الرجل من ميله إلى المَرأة كما يميل العطشان إلى الماء ، والجائع إلى الطعام ، حتّى إنّ كثيراً من الرجال يصبر عن الطعام والشراب ، ولا يصبر عن النساء .
والثاني : أنّ يوسف عليه السلام كان شابّاً ، موفور الشباب ، وشهوة الشباب وحدّتها أقوى .
والثالث : أنّه كان عزباً ، لا زوجة له ، تكسر شدّة الشهوة .
والرابع : أنه كان في غربة ، يتأتّى فيها للغريب ، من قضاء الوطر ما لا يتأتّى لغيره في وطنه ، وبين أهله ومعارفه .
والخامس : أنّ المَرأة كانت ذات منصب وجمال ، فالفتنة بها أشدّ ، والرغبة أتمّ ، وكلّ واحد من هذين الأمرين يدعو إلى الاستجابة لها .
والسادس : أنّها هي الراغبة فيه ، فلم تكن آبية ولا ممتنعة ، فإنّ كثيراً من الناس يزيل رغبته في المرأة إباؤها وامتناعها ، لمَا يجد في نفسه من ذلّ الخضوع ، والسؤال لها ، وكثير من الناس يزيده الإباء والامتناع زيادة حبّ ، كما قال الشاعر :
وزادني كلفاً في الحبّ أن مَنعت * * * أحبّ شيء إلى الإنسان ما منعا
ومعلوم أنّ ممنوع مرغوب .. وطباع الناس مختلفة في ذلك : فمنهم من يتضاعف حبّه عند بذل المرأة ورغبتها ، وتضمحل رغبته عند إبائها وامتناعها ، ومنهم من يتضاعف حبّه وإرادته بالمنع ، ويشتدّ شوقه بكلّ ما منع ، ويحصل له من اللذّة بالظفر بالضدّ نظير ما يحصل من لذّة الظفر بعد امتناعه ونفاره .
والسابع : أنّها طلبت وأرادت ، وبذلت الجهد ، فكفته مؤنة الطلب ، وذلّ الرغبة إليها ، بل كانت هي الراغبة الذليلة ، وهو العزيز المرغوب إليه .
الثامن : أنّه كان في دارها ، وتحت سلطانها وقهرها ، وهي السيّدة ، وهو العبد في ظاهر الأمر ، فهو يخشى ، إن لم يطاوعها ، من أذاها له ، فاجتمع عليه داعي الرغبة والرهبة .
والتاسع : أنّه لم يكن يخشى أن تفضح أمره هي ، ولا أحد من جهتها ، لأنها هي الطالبة والراغبة ، وقد غلّقت الأبواب ، وأحكمت الأمور ، وغيبت الرقباء ، وهيّأت كلّ أسباب الإغراء والإغواء .
والعاشر : أنّه كان مملوكاً لها في الدار ، فهو يدخل ويخرج ، ويحضر معها ، ولا ينكر عليه ، وكان الأنس سابقاً على الطلب ، وهو من أقوى دواعي الافتتان ، كما قيل لامرأة من العرب : ما حملك على كذا ؟ قالت : قرب الوساد ، وطول السواد (أي الليل) ، أو السهاد .
تعني : قرب وساد الرجل من وسادتها ، وطول السواد بينهما ، أو السهاد .
الحادي عشر : أنّها استعانت عليه بصاحباتها المَكر والاحتيال ، فأرته إياهنّ ، وشكت حالها إليهنّ ، لتستعين بهنّ عليه ، فاستعان هو بالله عليهنّ ، فقال : {... وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الجاهِلِينَ } [يوسف:33] .
الثاني عشر: أنّها توعّدته بالسجن والصغار ، وهذا نوع إكراه ، إذ هو تهديد ممّن يغلب على الظنّ وقوع ما هدّد به ، فيجتمع داعي الشهوة ، وداعي السلامة ، من ضيق السجن والصغار .
الثالث عشر : أنّ الزوج لم يظهر من الغيرة والقوّة ما يفرق به بينهما ، ويبعد كلّا منهما عن صاحبه ، بل كان غاية ما خاطبهما به أن قال ليوسف : {... أَعْرِضْ عَنْ هذا }[يوسف:29] ، وللمرأة : {واسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الخاطِئِينَ } [يوسف: 29] ، وشدّة الغيرة للرجل من أقوى المَوانع ، وهنا لم يظهر منه أيّة غيرة .
ومع هذه الدواعي فقد آثر مرضاة الله تعالى وخوفه ، وحمله حبّه لله على أن اختار السجن على الزنى ، فقال : {... رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ .. } [يوسف : 33] ، وعلم أنّه لا يطيق صرف ذلك عن نفسه ، وأنّ ربّه تعالى إن لم يعصمه ، ويصرف عنه كيدهنّ صبا إليهنّ بطبعه ، وكان من الجاهلين ، وهذا من كمال معرفته بربّه وبنفسه .. » .
فيا أيّها الشباب ! ويا أيّتها الفتيات ! ليكن لكم من نبيّ الله يوسف الصدّيق عليه السلام نموذجاً لعفّة النفس ، وجمال التقوى ، وقوّة العزيمة والإرادة ، وعلوّ الهمّة ، بما يرقى بكم معالي الأمور ، ويحول بينكم وبين منزلقات الفتن ، وتفاهات الدنايا ، والله يتولانا وإيّاكم بتوفيقه ورعايته .
المصدر : موقع مجلة إشراقات
"إنّ الآراء الواردة في المقال لا تعبّر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع، وبالتالي فإنّ الموقع لا يتحمّل تبعات ما قد يتًرتب عنها قانوناً"
الإنسان كما يريده القرآن ـ الجزء الرابع
أدباء الدَّعوة في انتظار الـمِظلّة
جواب العلم والدين.. لما تعارض عن يقين!
غزّة العزّة.. مَعلَم وشاهد حضاري للأمّة
ترتيب الأولويات.. وأثرها في تحقيق الذات!